علي النجار
في مجال الفن التشكيلي العديد من الفنانين الذين يملكون مقدرة فنية عالية في الرسم أو النحت او الأداءات المختلطة كفنانين حداثيين أو حتى ما بعد الحداثة
أو وهمها متخذين من ذلك ذريعة للنأي عن أية موضوعة لها صلة بالواقع المعاش الاجتماعي أو السياسي والبيئي ولو بالإشارة. ما دام العمل الفني بالنسبة لهم لا يحتكم للعنوان(أقصد الموضوع) ولا يجوز حتى إطلاق أي عنوان عليه، كما نهج فلسفة ما بعد الحداثة التي تحيله للمتلقي الذي هو صاحب الحق لوحده في إمكانية حل لغزه أو استساغته أو رفضه.
كأن الفنان مجرد وعاء للتفريغ، بالرغم من أن الجدل حول ذلك لم ينتهِ ، ربما يتم الاعتراض على ما أوردته كونه لا يخضع لشروط الما بعد، لكني أحيلهم للجانب الآخر من هذا الما بعد الذي يكرس الفكرة عملا فنيا. إذا نحن هنا امام متناقضات على الفنان أن يجد حلا لها، بالطبع هو حر في ان ينفذ أي عمل وينسبه مثلا للصوفية أو التجريد المطلق وغير ذلك، لكن لو رجعنا لتراثنا الصوفي لوجدناه تراث غنوصي نصي. نصوصه لو جردت من غاياتها التي أضمرها مؤلفوها لتحولت لمجرد مدونات أدبية ذات صبغة واقعية وغالبا وجدانية، فإن اشتبك الفن وهذه الصيغة أو صيغها الأخرى الملتبسة، فهل حقاً هو تماهى معها، أم تحول الى خطاب تشكيلي مختلف في أدواته وحتى في مغرى مفرداته أو ايحاءاتها، مع ذلك فقد اتسعت الرقعة النظرية لهكذا خطاب تشكيلي صوفي من خلال إيلاجه لمنطقة الحروفية الشكلية، وأعتقد أن هناك فرق ما بين الشكل كمادة بصرية بلاستيكية، والكلام بإيحاءاته الذهنية الخاضعة لمرجعيات مختلفة، فلو رجعنا للمنمنمات الإسلامية مثلاً، ومنها الفارسية، لوجدنا في البعض منها ترجمة وافية للخطاب الصوفي المدون وبالذات في واقعية رسوماتها الآدمية والطبيعية المدمجة أو المنفصلة عن العناصر الزخرفية. إذاً الخطاب الصوفي في هذه المدونات التشكيلية لا يبتعد عن مواصفات الخطاب الواقعي ولو بكونه خطاب ايحائي، على كل حال ربما ابتعدت عن مقصدي في قراءة أعمال الفنان التشكيلي العراقي المغترب( حقي البستاني) الذي أنوي محاورة نتاجه الفني أو بعضه هنا.
إن تكن فناناً ليبرالياً يعني لا بد لك أن تنتمي للواقع بتفاصيله الاجتماعية والسياسية وما يتبعها كحقوق الإنسان والحريات الشخصية المتعددة. أن تكون مدافعاً عنها من خلال ما تطرحه من أعمال فنية تواكب بها الحدث غالباً، وأن تديم نهجك الثقافي التواصلي مع الآخرين. الفنان حقي حينما اختار هذا النهج كان مدفوعاً بحسه الإنساني العالي الذي سكنه مبكراً من خلال أداة الرسم(التسجيلي الواقعي). هو ليس الفنان التشكيلي الوحيد في هذا المجال التعبيري. بل يذكرني مثلا بالعديد من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين والسوريين الشباب الحاليين. على الرغم من اختلاف التفاصيل والأساليب، فالقضايا التي يعالجوها هي قضايا آنية تمس مصائر أناسهم، مثل ويلات الحروب الطائفية والاحتلال الاستيطاني والاضطهاد ومصادرة الحقوق الإنسانية. هي نفسها ما يتبناها حقي في رسوماته المتعددة والمتسلسلة المتأخرة. أما تواصليته فهي مبنية على الاعتراف بالآخر إنساناً حراً يشترك في نفس الوقت مع الآخرين للدفاع عن حقوقه وحقوقهم ويدعو لفضاء صحي يعم المجتمعات في أية بقعة من العالم.
حسنا إن كانت المنمنمة في بعض من أداءاتها لا تبتعد عن الخطاب الصوفي المدون بتفاصيل تمت للواقع العياني. وهي أصلا جزء من منظومة ثقافية دينية غالباً ما تخضع للميثولوجيا اللاهوتية. فهذا يعني أن الواقع بموجوداته كان ضاغطاً لحد التسلل الى لحمتها وتفجير طاقته الايحائية. فكيف والخطاب المناقض للاهوت أصلاً. الخطاب المستل من عصر الأنوار والملائم لعصرنا الحالي كمنفذ للسلامة وتحرير الإنسان الفرد والجماعة من مصادرة الإرادة البشرية الحرة وتقرير المصير والهيمنة الشمولية السياسية واللاهوتية.
كمثال على ما يدرجه حقي في مدوناته أو عناوين أعماله، ولا فرق بين الاثنين. يستهل حقي مشروع رسوماته الأخيرة بما يلي:
(خلال شهر تموز سأحاول أن أضع رسمة واحدة في اليوم هنا. هذه الرسومات تركز على الأحداث الحالية حول العالم وهنا معا مثل العنصرية واللاجئين والاستعمار والحرب والجوع والحصار... كذلك كورونا من منظور السياسة الاجتماعية. . أبدأ بأحدث حدث عندما تمكنت الجزائر من استعادة بقايا 24 قيادات مقاومة ضد الاستعمار من فرنسا.
على سبيل المثال هذا الرسم جزء من سلسلة طويلة تسمى ـ أرشيف الاستعمارـ كل أرشيف له ملف مثل، الاستعمار البريطاني، البلجيكي، الاسباني وما الى ذلك).
حسنا في الفن كن كما أنت لا كما الآخرين. إن كنت تؤرشف للهم البشري أو كنت تتغزل أو تدافع عن البيئة أو الجمال المطلق، لا يهم الأداة التي تستعملها في تنفيذ أعمالك، لا يهم أن تبالغ في التقنية أو تتقشفها، لا يهم أن تعالج جزئية أو منظومة شاملة. كن أنت ما تدربت عليه وما تتقنه. فالانتحال يخرب الموهبة. الموهبة هنا بمعنى الإجادة، وهذا ما فعله حقي البستاني هنا، رسومه تحيل لمرجعيته التقنية الكرافيكية التي تدرب عليها وأجادها منذ البداية، هي التي تمنحه الحرية الأدائية لتنفيذ أعماله بتفاصيلها الواقعية أو الواقعية الرمزية أو الأرشيفية. فالعسكري بهيئته ومعداته ليس كما السجين بتقشف هيئته مع اختلاف الملامح. وإن كانت الملامح صنوا للهيئة ومؤثثاتها فقد أجاد حقي صنعها برمزية عالية مدفوعاً كما نوهنا بحسه الإنساني التعاطفي وقضايا اليوم الشائكة التي تمس النفس البشرية بشكل عام. من هذا المنطلق اعتبره كشخص وكفنان مكرساً لقضيته. وهذا ما كان يفعله منذ عرفته منذ أكثر من خمسة عشر عاماً الى يومنا هذا.
إن كان غالبيتنا يشير في أعماله الفنية للعموميات. أو يحاول استنطاق مؤثثات المحيط فقط، كالجدران ومخلفات البيئة للحد الذي بات هذا النهج أو النمط الفني طاغياً ومعترفاً به كقيمة عليا ضمن ظرف زمني كرسه بعض التشكيليون العرب كمنجز متجذر في وسطهم. فعلينا الآن ان نكتشف قيما أخرى. مثل القيمة الإنسانية في الانسان كشخص فاعل ضمن بيئته ومحيطها المداري. أو حتى محاولة الاشتغال عليه كقيمة مرادفة إن لم تكن أعلى. وأعتقد أن هذا ما فعلته الكثير من وسائط ما بعد الحداثة التشكيلية العالمية التي غالبا ما نغفل عن ملاحظتها، رغم التباس إيحاءات الأفكار المنفذة بالنسبة لغالبيتنا. من هذا المنطلق أجد أن درس الفنان العراقي المغترب حقي جاسم لا بد أن يأخذ حيزه في هذا المجال. كما أعتقد أنه لم تعد لأطروحات(مارتن هايدجر) عن الشيئية والتشيؤ التي تأثر بها المرحوم شاكر حسن آل سعيد ضمن ظرف زمني سياسي مساعد، هي كافية لتغطية مساحة الفعل التشكيلي عالميا بمختلف مناطق أداءاته وكخطاب ظاهراتي ليس إلا. علينا أن نعيد أنسنة الخطاب الفعل مرة أخرى لنعيد قيمة أفعالنا التشكيلية بما يوازي الجدل الدائر فلسفياً واجرائياً.
لكل فعل زمن كما لكل فن زمن. وزمننا المأزوم هذا بحروبه الرقمية وصراع صناع القرار العالميين واستنهاض الأوبئة بما أحدثته من صدمة لا بد لها أن تصدع مجمل مفاهيمنا التقليدية التي نشأنا على تأويلاتها المتناقضة. أو ربما ويلات تأويلاتها الميتافيزيقية غالباً فنياً.
حقي البستاني دائم البحث في زوايا العالم البعيدة والقريبة عن موضوعاته الفنية. فهو كما أعتقد ابن هذا العالم في انتمائه الشمولي لقضايا الانسان أينما كان. كنا سابقا نقرأ عن رسالة الفن ونحن لا نعيرها وزنا ما دمنا مستأنسين بما عندنا. ربما لقيود السلطة الغاشمة في عراق الدكتاتورية، قبل هجراتنا والتي كانت ضاغطة ومن الصعوبة الإفلات منها إلا تلميحاً، وكما فعلها بعض التشكيليين العراقيين. كان الرمز والتورية والاسطورة والمخيلة منفذا لذلك. ليس وأنت تعيش في دولة أوروبية تتوفر على الحقوق الكاملة للتعبير وابداء الرأي بالوسيلة التي تجدها مناسبة. وأنا أتذكر إعدام اثنين من فنانينا التشكيليين العراقيين بداية زمن حرب الخليج، أو اغتيال الفلسطيني(ناجي العلي) وربما غيرهم لمجرد إبداء رأي أو رسمة. لم تكن زوارق الموت، وهي قضية المهاجرين غير الشرعيين لتغيب عن اهتماماته الفنية ولا الأوبئة الطفيلية ولا إشكالية العنصرية كتعصب عرقي ومذهبي وغيرها. مثلما التقاطته هذه التي عنونها لأحدى رسومه:
(الدكتور محمد مشالي (1944 - 2020) طبيب مصري .. طبيب الفقراء ..منح خبرته وحياته لهم).
أو الالتقاطة الآخرى( الهجرة القسرية كارثة اجتماعية وبيئية)
وتفاصيل أخرى كثيرة تبوأت عناوين رسوماته، لكن هل يعني أن هذه الرسوم مجرد رسوم بيانية لهذه العناوين. بالتأكيد لا. فهو يبحث عن التفاصيل المعبرة عن الحدث والحادثة لكي يضفي عليها ملامح واضحة بخطوط حفرية تعمق بنية العمل(الرسمة) الصورة، يغرقها بالتفاصيل، أو بتقشفها، حسب الحالة التعبيرية المناسبة للجسد ولمؤثثاته التابعة الأخرى، مثلما يؤنسن الأسطورة، كما في أسطورة علاء الدين والفانوس السحري لغايته السياسية الراهنة. وهكذا ما بين الفكرة والتفكير والبحث عن التفاصيل يصنع لنا حقي إمثولاته الفنية التواصلية المعاصرة.
للتواصلية في الفن مبحث آخر خاض تشعباته حقي متلقياً ومنفذاً ومدرساً لحلقات دراسية خاصة اطلعت على البعض منها ولمست نتائج بعضها أيضاً، وهو إذ يؤكد على هذا الدرس الحواري فمن أجل حل بعض من إشكالياتنا أو معضلاتنا الثقافية وصولاً لحلول تشكيلية مختلفة حسب أداء كل شخص. وكما يطرح بعض رؤيته المرافقة لرسوماته:
(إذا كان مفهوم الجمال يعني إدراك التوازن الرياضي المنسق والقيمة الحسّية في الأشياء المادية، فأن وظيفة الفن هي القدرة الواعية في تحليل الحياة، الأشياء والفعل الإنساني في المجتمع تحديداً. ذلك يحدد أيضاً دور الفن في المجتمع أو "الفن المستدام" كمفهوم جديد)
إذا هو يطرح تواصليته من خلال فهمه لمصطلح(الفن المستدام). والفن المستدام فن ذو جذر مفاهيمي يرجعه بعضهم لزمن نهاية الحرب العالمية الثانية، فن يدعو للانتباه والاشتغال على بيئة العدالة الاجتماعية والعنف والديمقراطية الشعبية ويتم الاشتغال عليه ضمن حاضن اجتماعي واقتصادي وبيو فيزيائي دون إهمال للجانب الثقافي التاريخي، أما دوره كفنان فهو من خلال(فاعليته كعامل اجتماعي حر قادر على تقديم بدائل للأيديولوجيا السائدة وباستخدام مواد غير سامة في عمله) فالبيئة الصحية اجتماعياً وسياسياً وثقافياً مع شروطها و تشعباتها هي الهدف المنشود لاشتغالات الفن المستدام، ضمن شروط آليات أداءات هذ المفهوم الواضح كرس حقي جاسم اشتغالاته الفنية منذ بدء اهتمامه بالفن المفاهيمي كفن تشاركي.
حينما عرفت حقي البستاني لأول مرة كان منغمساً بتنفيذ أفكاره سواء كعمل تجميعي أو أدائي جسدي. مع ولعه بنتاجات الثقافات الشعبية كعامل توظيفي لبعض هذه الأفكار. حتى أعماله في الرسم كانت مغرقة بالتلصيق الصوري لتفاصيل بيئية وسياسية آنية، قريبة في اداءاتها في نفس الوقت من حسه الكرافيكي الذي اختص في دراسته. فهذه الرسوم البيئية والسياسية المتأخرة أجدها لا تنفصل عن جذرها الكرافيكي بمسحتها العامة والخطية. وان رجعنا لذلك الولع الأدائي الجسدي الذي شغله في فترة ما، فسوف نجد آثاراً له في هذه الرسوم التي عوضت فيها تشخيصاته الإنسانية وملحقاتها الأخرى عن جسده نفسه. لم يكن تبادل الأدوار الافتراضية هذه إلا بعض من محفزات الذات المهمومة والمنغمسة في فضاء حريتها الفكرية التي تؤشر لمواطن الخلل الذي يصيب مجتمع بلاده الأم والبلاد العربية وبقية شعوب العالم المضطهدة.
أخيراً لا بد من إثارة الأسئلة حول دور الفنان المعاصر كشخصية متمردة على الساكن، وهو دور ليس بالجديد، مادام الفن اكتشافات مستمرة. فهل سوف نبقى حريصين على ما لدينا. أم نتواصل والاكتشافات. ونسعى مشاركتها تواصلياً أيضاً. بالتأكيد لكل فنان الحق في الاشتغال على ما لديه ليكون صادقاً مع نفسه. لكن هل من الواجب عليه الانتباه لما يجري حوله. بل لما يخترقه أحياناً. ومثل وباء الكورونا واضح. فهو سلاح ذو حدين فبالوقت الذي يحجر على حريتنا، يصادر إرادتنا من قبل السلطات التي وجدت في هذا الوباء مجالاً لتضييق الحريات الفردية أكثر، ولإعلاء سلطتها المركزية على مصالح المجموع. لذلك وكفنانين أولاً وكبشر كسائر البشر، هل من الممكن أن نقرأ ما وراء الحدث ونحاول ربطه بأحداث أخرى ربما كنا غفلنا عنها، وما هو دورنا، حقي البستاني هو الآخر يشير الى مواقع الخلل لا بأصبعه. بل بمحاولة تفكيكه أعمالاً فنية دالة. وهذه حسنته!