د. نادية هناوي
من السمات التي تدعم فكرة أنّ الرواية جنس عابر بالمعنى التوافقي الذي ليس فيه تضاد في الوصف، سمة التجريب الذي يُبقي الرواية دائمة التجدد والتصيِّر،
وهو ما استثمره مارسيل بروست وجيمس جويس وصاموئيل بيكت الذين جربوا مضيفين ومنوِّعين غير محددين في الكتابة الروائية، مستغورين الحياة ومتمثلين حريتها التي لا طريق إليها إلا المغامرة والتوتر والإحساس بالتفرد والتمرد على الصمت والاختناق.
ولا عجب أنْ نجد تغايراً في النظر إلى تقنية الرواية بين النقدين الفرنسي والأميركي لا يخلو من فهم سياسي للأدب، ومع ذلك تظل للتجريب دلالة التجلي في الهوية التي فيها يصل الإنسان إلى لحظة التوصل عن طريق التجربة، وبالتجلي يستطيع القاص أن يجعل إبداعه متجددًا في تطويع العلاقة بين اللغة والموضوع وبينهما وبين القارئ.
ولم يكن جويس وحده المجرب في هذا الصدد؛ بل كان تورجنيف واندرسون وكافكا وبورخس وماركيز ومورافيا ونابوكوف وغيرهم قد أدركوا أهمية التجريب في هذا المضمار.
ولجيرار جينيت رؤية تكاد تتقارب مع منظور ياكبسون للتوالي بوصفه اشتغالاً يتخذ من التواقت درجات، وهو يحلل رواية( بحثًا عن الزمن الضائع) لمارسيل بروست، مقطِّعاً الرواية إلى تمفصلات سردية أو وحدات، بعناوين بلغ عددها إحدى عشرة وحدة سردية. والوحدة السردية الأخيرة تتمثل في حفلة كيومانت النهارية مما سماها( الوتيرة الروائية) التي يشبهها بالتقاليد الموسيقية الكلاسيكية كالسمفونية والسوناتة والكونشيرتو التي تشبه الحركة السردية. وهذه المحايثة بين الرواية والموسيقى الكلاسيكية هي بادرة تداخل إجناسي أول؛ يفضي بالرواية إلى أن تكون عابرة للأجناس في الآخر.
ومن الأنواع السردية التي تندرج في جنس الرواية السيرة Biography، وهي قبل أن تتعامل معها النظرية الأدبية وتتخصص في دراستها، على أشكال؛ فمنها التاريخية التي هي مدونات مذكراتية، وتسجيلات حياتية، وحوليات زمنية توثق حياة شخصية عامة تركت أثراً عبر مسيرتها الحياتية فصارت الترجمة لها فعلا وطنيا وقوميا، يترجم مأساة شعب أو نضال أمة جسدته في كنفها تلك الشخصية التاريخية.
وأصل السير الذاتية مذكرات شخصية واعترافات أنوية ويوميات خصوصية مدونة بلسان مؤلفها الذي هو ساردها. وعادة ما يكون مثقفاً أو أديباً أو شخصية عامة، عاشت حياةً حافلةً بالمتغيرات نجاحاً أو إخفاقاً، فحفظ ذلك كله في تدويناته التي لا تخلو من توثيق لأحوال مجتمعه الذي فيه خبر وجوده، ومعه نما وعيه. ولا تعود السيرة ممثلة لصاحبها الذي كتبها أو الذي كُتبت له أو كُتبت عنه حسب؛ بل تمثل جيلًا وتجسد عصراً، كان صاحب السيرة جزءاً منه أبدع من أجله، سابراً أرثه الذي تغلغل في وعيه ولا وعيه.
ونذكر هنا من السيرة شكلا هو ليس بالجديد، لكنه أخذ يتسع في الأونة الاخيرة على يد شخصيات عامة وطنية وسياسية وفنية تملك تاريخاً سياسياً أو نضالياً أو إبداعياً فيه من المحطات والتفصيلات والعموميات ما يهم جمهور القراء. وعادة ما تُدلي الشخصية في سيرتها بأمور عامة وليست شخصية تتعلق بوقائع تاريخية خمد ما فيها من أوار، وانطوى ما فيها من إعصار، كسقوط نظام أو اندلاع ثورة أو المطاردة على خلفية فشل انقلاب أو ثورة ..وغير ذلك من وقائع تتماس مع حياة الشعب المصيرية، ليقوم واحد من أصحابها من القادة أو الثوار أو المبدعين بمكاشفة الجمهور بالحقيقة غير متقيد برقيب. وستكون سيرته جزءاً من الذاكرة الجماعية. وسنسمي هذا الشكل بـ( السيرة السياسية) التي هي مختلفة عن كتابة المذكرات، كونها ترتكن على التاريخ العام الذي لا يحتاج إلى التزام بالتوثيق لأحداث معروف تاريخها عند الجميع، لكن الكاتب يفصح في سيرته عن خفايا غائبة وملابسات متوارية أو مجهولة مما لم يذكره التاريخ الرسمي، بينما تقتضي كتابة المذكرات التأرخةَ لكل حدث باليوم والشهر والسنة، وتكون الأحداث في أغلبها خاصة بحياة الكاتب، متسمة بالاعتراف والصراحة مع اعلاء خصوصيات الذات واستبطاناتها النفسية، كما في مذكرات بابلو نيرودا وأندريه مالرو. ولا تخلو المذكرات من شهادات حية على العصر في تصوير أحداثه وأمكنته.
وتتقنع( السيرة السياسية) بقناع السيرة الذاتية غير متطلبة من كاتبها أن يكون أديباً وإنما هي القدرة على استدعاء الذاكرة ومقاومة النسيان، ليكون بمثابة شاهد عيان نريد منه "ملاحظة الحقائق وليس غيرها..من خلال البحث الجديد المتسم بالاستقلالية والتأني وعدم الانفعال، نريد استخدام الوثائق كلها، إنْ كانت تضيء جانباً جديداً من الموضوع".
ومن الأمثلة على السيرة السياسية في العراق ما كتبه السياسيون بهاء الدين نوري في( الأيام العصيبة) وهاني الفكيكي في( أوكار الهزيمة) وعبد الستار الراوي في ( أوراق عتيقة ) وطالب الشبيب في( عراق 8 شباط من حوار المفاهيم إلى حوار الدم) وغيرهم.
وبناءً على مواضعات الكتابة النسوية، يمكن للسيرة الذاتية أيضا أن تكون على شكلين وكل شكل يتمتع بخصائص وسمات تختلف عن الآخر، فأما الشكل الأول فهو السيرة الذاتية النسوية التي هي سيرة تكتبها المرأة وتكون فيها هي المؤلفة والساردة والبطلة. وأما الشكل الثاني فهو السيرة الذاتية الذكورية التي فيها الرجل هو المؤلف والسارد والبطل؛ غير أن هذا التنويع لا ينطبق على السيرة الغيرية أو الترجمة الروائية، لعدم وجود فرق بين أن يكون المؤلف رجلاً أو يكون المؤلف امرأة، وذلك عند الكتابة عن سيرة أحدهم رجلا كان أم امرأة.
ولئن كانت السيرة الغيرية هي ترجمة يقوم بها كاتب هو ليس الشخصية نفسها، لا تعد من الأدب الشخصي، بعكس السيرة الذاتية التي هي من الأدب الشخصي. من هنا يغدو التنويع الجندري فيها ضروريا، والسبب أن الرجل وإنْ كان قادراً على أن يكتب سيرة ذاتية نسوية سارداً الأحداث بلسان المؤنث؛ بيد أنّه لن يبلغ ما ستبلغه المرأة الكاتبة من ناحية تشفير معطيات الفكر كتاريخ فيه تتوكد قيمة المؤنث ومواضعات الجسد كمركز فيه تكمن سحريته، وضوحًا وايجابية أكثر منه غموضاً وغريزية, وإلى غير ذلك من المواضعات والمعطيات التي تستطيع الشيفرة التأويلية توصيلها إلى عموم القراء.
وما يتداوله النقاد اليوم من مقولات حول السيرة وكأنها جنس مستقل كالرواية، وما يضعه الكتاب على أغلفة أعمالهم من تسميات مثل( رواية سيرية، رواية سيرذاتية، مذكرات روائية، رواية اعترافية، سيرة روائية ) إنما هو في المنظور العابر للأجناس توصيف ثيماتي يظل في حدود المحتوى والتعريف بالموضوع وليس التجنيس الأدبي. وليس كما ذهب كات هامبورجر الذي عدّ السيرة الذاتية والرواية بلسان المتكلم شكلين مضافين إلى الجنس الغنائي، مفترضاً أن الأجناس كلها عبارة عن جنسين فقط هما الملحمي والغنائي.
وقد يقال إن شيوع السرد السيري والترجمي ورائجية تداولهما، تستدعي من النظرية الأدبية إذعاناً له وامتثالاً لرغبته في الاستقلال بتجنيس منفرد، به يضاهي سائر الأجناس السردية الأخرى، لكن ليس يسيراً البت في أمر التجنيس بالاستناد إلى الشيوع وحده، ولو كان الشيوع هو المؤهل للتجنيس لاعتدّ أرسطو بالحكاية الشعبية أو الخرافية ولسماها جنساً وبنى لها قواعد وأسساً.
إن أهم مقوم من مقومات التجنيس هو الثبوت أولا وتأتي بعده مواضعات العبور التي بها يكون الجنس متغيراً ومتحوراً متبدلاً ومع ذلك يظل محافظا على ثبوت قالبه. وقد سئل أدوار الخراط عن مفهومه للرواية فأجاب( الرواية في ظني الشكل الذي يمكن أن يحتوي على الشعر وعلى الموسيقى وعلى اللمحات الشكلية .. ولا يمكن أن تكتفي بكونها متابعة للشكل الذي عرفته الرواية في القرن التاسع عشر..وسعيّ هو أن أنطق بهذه اللغة حساسيتي وفكري ..أن أعطي صوتاً لمن لا صوت لهم ولما ليس له صوت)
وبالرغم من أنّ للسير أبعادها الأدبية وسماتها الجمالية، فإن من غير الممكن لها أن ترتفع إلى مصاف إجناسية، لأن ليس لها القالب الذي يمنحها الثبوت الذي به تمتلك أحقية عدَّها جنساً متفرداً عابراً، وهذا ما يجعلها قابلة إبداعيا لأن تتمظهر في جنس سردي أكثر منها رسوخاً وتمركزاً مع أنه يمتلك مثلها قابلية التغير والانضواء وهو جنس الرواية، التي باستطاعتها احتواء السيرة مذكرات كانت أو اعترافات أو يوميات أو خواطر أو تراجم أو تسجيلات، مؤرشفة ما فيها للتاريخ بعد أن تدمغه بالتخييل. وإذ تفتح الرواية للسيرة حدودها فذلك ما يجعل قالبها متسعاً لها أي للسيرة، عابراً إجناسياً عليها.