علي حسين
لسنوات كنت أتجنب الاقتراب منه وحين نشرت في بداية الثمانينيات سلسلة من الحوارات مع مسرحيين وتشكيليين وسينمائيين ، لم يخطر في بالي يوماً أن أضع محمد شكري جميل ضمن القائمة ،
فقد كان أسهل علي أن اقتحم مرسم فائق حسن وأحاوره من أن اقترب من منضدة محمد شكري جميل في كافتريا دائرة السينما والمسرح ، حيث كان يبدو لمن ينظر إليه رجل عبوس ، عيناه تدوران في المكان ، وجهه يحمل معه الشرود.. شكله بدا لي ساخراً وجاداً في الوقت نفسه ، وتشاء الصدف ذات يوم أن التقي محمد شكري جميل في مدخل دائرة السينما والمسرح ، فقلت لنفسي لاتشجع وأطلب منه إجراء حوار ، وكان هذا اللقاء بداية لصداقة امتدت على مدى أربعين عاماً بنفس المحبة والتوهج استطعت من خلالها أن اكتشف عالم جميل اسمه محمد شكري جميل ، كان السؤال الأول الذي وجهته له آنذاك : من هو محمد شكري جميل ؟!
-وكانت إجابته هادئة وهو يقول : أنا إنسان أحيا داخل علب كبيرة من الشرائط التي صورتها وأحفظ لقطة صغيرة فيها ، حيث أودعت نفسي في كل الأفلام التي أخرجتها
كان هذا الجواب مدخلاً لاتعرف على عالم فنان كبير يصر أن يقيم بشكل دائم في السينما حيث يختلط عنده الذاتي بالموضوعي.. الواقع بالوهم.. المرئي باللامرئي..الواضح بالغامض..الكذب بالحقيقة.. ، هذا الاختلاط العجيب الذي ينقيه الفنان برؤاه ليزيح عن أبصارنا غشاء ثقافة الظلام ويطلقنا برفرفة أحلامنا في عصب ثقافة العين..هذا الكائن المعذب، القلق، المسهد، العنيد، المكافح، المتمرد، الأريحي، يكفيه أنه لم يسع الى رفد أيامنا بافلامه العذبة فحسب بل إنه سعى الى أن يجمل لنا هذه الأيام.
ما يقرب من السبعين عاماً في السينما هو الزمن الممتد من سنة 1953 حين وضع محمد شكري جميل أولى خطواته في هذا العالم العجيب ليعمل مساعد مصور في الوحدة السينمائية التابعة لشركة نفط العراق..نصف قرن هو عمر تجربته الفنية وعمر أسلوبه وهي زمنه الخاص حين يمتزج الفن بالحياة وهذا ماتكشف عنه أعمال محمد شكري الذي يقيم في التاريخ كونه أحد أهم رموز السينما في العراق من خلال أفلامٍ استطاعت أن تقدم لنا الماضي باندفاعها الحر باتجاه المستقبل، وإذا كان الأسلوب وحده يمنح الفنان فرصة البقاء والخلود فأن محمد شكري جميل من أحرص فنانينا على أسلوبيته التي جعلت منه واحداً من صناع السينما العربية
ليس سراً أن محمد شكري جميل سينمائي قبل أن يكون أي شيء آخر.. ويروي إنه شغف بالفن السابع منذ كان في سنواته الأولى فهو ينتمي عائلة تضم مترجماً ورساماً وقد علّمته هذه العائلة أن السينما هي أكثر الفنون تقدماً لانها لغة تعتمد على إعادة تركيب الصور الموجودة في الحياة..أحبّ الصور والرسم والالوان ودفعه حبه للتوجه صوب معهد الفنون الجميلة الذي لم يكن آنذاك قد فتح فرعاً للسينما ولان همه كان في التواجد بالمعهد فلم يجد مناصا من ان يدخل قسم الغناء والموسيقى وفي هذا القسم درس تقنيات الصوت لمدة عام ليغادر بعدها المعهد ليعمل في الوحدة السينمائية لشركة نفط العراق مساعد مصور وقد تحدث عن تلك البداية قائلاً: " كانت تجربة قاسية حين خرجت في اول يوم تصوير انتابني احساس بجسامة العمل وذلك لثقل ماكنت احمل من الات التصوير خصوصاً ان التصوير كان لأشياء بسيطة اعتيادية ولكنني سرعان ماشعرت بان العمل الحقيقي يبدأ من هنا" في عمله هذا يكتشف أن المونتاج هو الأقرب الى نفسه ومزاجه وهو أيضاً عصب الفيلم السينمائي فيقرر أن يدرس تقنيات هذا الفن وكل مايتعلق به فيسافر الى انكلترا ليلتحق في معهد التكنيك السينمائي..العام 1958 تبدأ مرحلة جديدة من حياته حين تتاح له الفرصة لإنجاز أول فيلم له..وكان فيلماً قصيراً صور فيه انطباعات طالب عراقي في لندن مدته عشرون دقيقة كتب له السيناريو وصوره..الفيلم دفع بإساتذة في المعهد لأن يرشحوه للعمل مونتيراً في ستوديوهات (امفيل وبايندو)..في العام 1961 ينهي دراسته في لندن ليعود الى بغداد ويلتحق بالعمل في مصلحة السينما والمسرح التي تشكلت حديثاً وكان يرأسها الفنان يوسف العاني الذي يرتبط معه والمخرج حمد جرجيس في تنفيذ أول أفلامه الروائية وهوفيلم " أبو هيلة " المعد عن مسرحية" تؤمر بيك" ليوسف العاني ، لكن الفيلم الذي عرض عام 1962 لم يرض طموحات محمد شكري جميل ولم تغره إطراءات الصحافة وإقبال الجمهور على الفيلم فقد كان يعتقد أن السيناريو الذي كتبه يوسف العاني يخلو من أية قيمة درامية.. الإحساس بالفشل يدفعه الى الانصراف الى إخراج مجموعة من الأفلام الوثائقية حتى يأتي عام1969 ليخوض تجربته الثانية وهي " فيلم شايف خير " الذي وضع له السيناريو عن قصة لجميل الجبوري وكسابقة لم يرق الفيلم لمحمد شكري وعدّه مرحلة فاشلة جديدة في حياته لم ينته منها إلا بعد أن قدم " الظامئون" عام 1972 والذي لاقى نجاحاً كبيراً وإقبالاً جماهيرياً ذكّر المتابعين للسينما باصداء فيلم سعيد افندي.. فالظامئون بصدقه وبساطته ترك أثراً لايمحى في النفس وقد حصد الفيلم جائزة النقاد في مهرجان موسكو الثاني..في الظامئون يستوفي محمد شكري جميل اقتداره كمخرج سينمائي فيسعى في السنوات التي بعدها لأن يصنع فيلماً عن الأحداث التي مرّت في العراق في مرحلة الخمسينيات ويجد ضالتة في سيناريو صبري موسى المعد عن رواية لعبد الرحمن مجيد الربيعي ليقدم عام 1979فيلمه الأسوار الذي منح الجائزة الذهبية في مهرجان دمشق السينمائي عام1979 وكانت لجنة التحكيم برئاسة الكاتب الشهير جنكيز ايتماتوف الذي وصف الفيلم بانه يبشر بولادة سينما عربية جديدة من خلال لغة سينمائية واعية..بعد الاسوار يبدأ محمد شكري مرحلة جديدة في أفلام كبيرة..المسألة الكبرى..الفارس والجبل..اللعبة..الملك غازي وانتهاء بالمسرات والأوجاع رائعة فؤاد التكرلي .
اصطبغت أفلام محمد شكري جميل بوعيه لأسئلة الواقع الاجتماعي والسياسي فتميز كواحد من صانعي الفيلم السياسي في السينما العربية.. " السياسة والواقع الاجتماعي تدخلان في تكويني السينمائي" هكذا يقول محمد شكري وهكذا نجد افلامه تحتوي على خطاب سياسي واضح دون تضحية بالجانب الفني لمصلحة الخطاب السياسي.. وتهتم افلامه بالواقع باعتباره مادة للدراما السينمائية وموضوعا سياسيا واجتماعيا وتستند هذه الافلام في بنائها الى البناء الفني المحكم ، فلا التضحية بالموضوع وقيمته ولامحاولة تجريبة شكلية فارغة.. ونجد ابطال افلامه يحققون ذواتهم من خلال ارتباطهم بالمجتمع ، فهم مدفوعون ومحرضون بسببه لذا فانهم يثيرون القضايا الاجتماعية من خلال خطاب مفتوح على التزام انساني في التعامل والتأكيد على التواصل والحميمية في طرح العلاقات بين الناس من جهة وبين الناس والحدث والقضية من جهة اخرى.. وهو يؤمن بان السينما هي تعبير عن المشاعر الجميلة وان المخرج السينمائي انما يصور روحه في افلامه ففي السينما نشم رائحة الاشياء وطعم الحياة وهو يدرك ان روعة السحر في السينما تكمن في اللعب بالزمن كعنصر اساسي ورئيسي في التركيب الدرامي ولهذا فهو بعد تجربة اكثر من ستين عاما يدرك انة كان محظوظا في انتقاء موضوعاته والتي شكل التاريخ جزءاً لايتجزأ منها فمن خلال التاريخ يبحر لاصطياد الحقائق..من بين أفلام محمد شكري العديدة سأتوقف عند فيلم (الظامئون) كونه أول فيلم عراقي يقدم شخصيات واقعية تواجه صراعاً مضاعفاً. فهي تقاوم الوقع الاجتماعي المتخلف من جانب ومن جانب آخر تواجه الطبيعة القاسية التي تعطلت بسبب الجفاف الذي أوقف كل شيء ولم يبق سوى الموت يقول محمد شكري إن الرواية أثرت فيه عند قراءتها " فالمرة الأولى التي اقرأ فيها رواية تصور صراع الإنسان مع الطبيعة وكان المطلوب مني أن أبحث عن كاتب للسيناريو يستطيع أن يعمم جو الرواية وشخصياتها بحيث تلمس واقع المتفرج أينما كان وفي الوقت نفسه يحافظ على محليتها وخصوصيتها" ويجد ضالته في ثامر مهدي فهذا الناقد والكاتب كان يخطو خطواته الأولى في السينما وكان الامتحان الأول الذي واجه ثامر مهدي كما أخبرني، هو أن رواية الظامئون عالم يموج بالحركة والحركة فيها ليست عشوائية بل هي صراع محدد يدور وفقاً لقوانين فكر محدد وهو لهذا صراع واقعي في الدرجة الأولى لاتحركه بطولات فردية زائفة أوحوادث مفتعلة ولهذا سعى كاتب السيناريو والمخرج الى أن يقدما فيلماً يجمع بين ذاتية الإنسان وبين الحدث المليء بالحركة والشخصيات.. فنحن في الفيلم أمام شخصيات تجمع بين البساطة والتعقيد، فهي شخصيات عادية الى درجة غير عادية.. ولم يقتصر عمل محمد شكري في الظامئون على ترجمة الرواية الى حركة مستمرة على الشاشة بل تعدى ذلك الى خلق حياة تشد المتفرج، وتعيش وتنمو في مشاعره وفكره معاً.