د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
تغتني العمارات، عادة، بمواد تنفيذها الغالية، كما تغتني أيضاً بثراء التفاصيل وبتنوع التزيينات وفي تعقيد حلولها التكوينية – الفضائية.
لكن ثمة "عمارات" آخرى تعتز و"تتباهى" بنوع من الغنى النابع عن احتشام الأشكال، وتواضع المواد، وبساطة التكوين والمقياس. وبسبب تلك الخصائص وانطلاقاً منها، فان مثل تلك العمارة تتبدى للناظر وكأنها تنسج معه وبسرعة نوعاً من حميمية مشتركة، وتخلق معه شكلاً من ألفة متبادلة! و"نصب مهاتما غادي التذكاري" (1958 – 1963) في أحمد آباد بالهند المعروف ايضا بـ "غاندي سمارك سانغراهالايا" Gandhi Smarak Sangrahalaya، عند "اشرام" سابارماتي Sabarmati Ashram، والمصمم من قبل المعماري الهندي "جارلس كوريا" (1930 - 2015)؛ يعد واحداً من الصنف الثاني لتلك العمارات الآسرة!
عندما قاد المهاتما غاندي (1869 - 1948) الجموع الهندية الخفيرة في مسيرة عصيان كبرى، مشياً على الأقدام لمسافة قدرت بحوالي 400 كم الى "داندي" في 12 آذار 1930 احتجاجاً على قانون "الملح" الذي سنته السلطات الاستعمارية البريطانية وقتها لترويج المنتجات الانكليزية بالضد من المنتج الوطني، كان الزعيم الهندي مقيماً في "اشرام" سابارماتي بالقرب من نهر "سابارماتي" بمدينة "أحمد آباد"، الواقعة في شمال غربي الهند، هي التي كانت في السابق عاصمة لولاية غوجارات لعقد من السنين. وتعني كلمة "اشرام" وفقاً <لقاموس كمبردج>، بأنها "دير" أو "صومعة" في الديانة الهندوسية. وجذر هذه اللفظة السنسكريتية إيتمولوجيا Etymology، يذهب الى مصطلح معناه "خطوة في رحلة الحياة". ولاحقاً، تم الحفاظ على تلك الأبنية المتواضعة التي سكنها المهاتما غاندي ما بين1917 - 1930 وتعبّد فيها مع آخرين. وفي موقع جوار ذلك "الاشرام"، تقرر أن تشيد مباني "غاندي سمارك سانغراهالايا"، وتعني "مؤسسة غاندي التذكارية". وهي مؤسسة عامة، مكرسة للحفاظ على نشاط وعمل غاندي أثناء إقامته في ذلك الأشرام، الواقع على ضفة نهر سابارماتي، وتكريس ذكراه من خلال حفظ وثائقه العديدة ورسائله التي تقدر بـحوالي 30.000 رسالة كتبها بخط يده والمرسلة اليه من قبل آخرين، وكذلك كل ما يتعلق به وبنشاطه ونشاط نضاله السياسي الذي قاد في الأخير الى استقلال الهند بأسلوب "اللاعنف" الذي اشتهر به الزعيم الهندي.
كلّف المعمار "جارلس كوريا" بتصميم هذا المجمع التذكاري في موقع "اشرام سابارماتي" بأحمد آباد. كان "كوريا" وقتها قريباً الى الثلاثين من عمره، هو الآتي تواً من الولايات المتحدة بعد أن أنهى دراسته الاكاديمية في خيرة مدارسها المعمارية. إذ سبق وأن أنهى تعليمه في جامعة ميشغان ما بين (1949 - 53)، عندما كان بوكمنستر فولر Buckminster Fuller أستاذاً هناك، كما أنهى دراسته العليا في معهد ماساتشوستس التكنولوجي( MIT 1953 -55)، وحصل على الماجستيرعندما كان فالتر غروبيوس مديراً واستاذاً فيه. وعندما عاد كوريا الى وطنه الهند، أسس مكتباً استشارياً له في "بومبي" وكان أول مشروع صممه هو "جناح النول اليدوي" في بومبي عام 1958. ونفذ بالآجر والخشب والنسيج المشغول بالنول اليدوي Handloom fabric وضمن فترة قياسية أمدها ستة أشهر. بعد ذلك مباشرة اختير لتصميم مجمع "غاندي سمارك سانغراهالايا" في الموقع إياه. اشتغل كوريا على مشروعه وأشرف على تنفيذه مابين ما بين 1958 - 1963، وافتتحه رئيس الوزراء الهندي وقتها "جواهر لال نهرو" (1889 - 1964) في 10 أيار سنة 1963.
اعتمد المعمار لحل إشكاليته التصميمية على ضرب من تكوين يتكئ على تقسيم مخطط مبناه بشبكة من الوحدات المعيارية Modular Units ذات أبعاد 6×6 أمتار. وقد سعى وراء اصطفاء مثل ذلك المخطط البسيط، الى عكس حياة غاندي المتواضعة تصميمياً. ولأجل إعطاء انطباع من أن أسلوب المجمع المبني، يستحضر "بُـنية" القرية الهندية ونمط دروبها العشوائية، فإن المعمار لجأ الى أسلوب تجميع تلك الوحدات البالغة عددها الكلي 51 وحدة وفق نسق اللاتماثلية الواعي، مبقياً بعض تلك الوحدات خالية من التسقيف وأخرى مسقفة، وبعضها مغلقة بجدران وبعضها الآخر مفتوحة من دون جدران، متجمعة حول حوض مائي وسطي مفتوح للسماء. وبهدف تكثيف الإحساس في "بساطة" الوحدة المختارة وتواضعها الشكلي فإن المصمم اقتصر في تنفيذها على مواد هي الأخرى متواضعة ومألوفة، مثل الآجر والخشب والقرميد فضلاً على الخرسانة المسلحة. كما اتبع نظاماً انشائياً بسيطاً يتسم على صراحة واضحة، قوامه الرافدة العرضية المحمولة من خلال مساند عمودية. اختار المعمار خمسة أقسام مسقفة من تلك الوحدات المنتشرة والمكونة لمخطط المبنى ذات أشكال مختلفة وأحياز متباينة، وكرسها الى فعاليات وظيفية خاصة بالمجمع. فهناك قسم الإدارة، وقسم آخر خاص الى اللقاءات والتجمع، وثالث يحتوي على الكتب والمطبوعات، ورابع يتضمن مجموعة الرسائل العديدة، أما الخامس والأخير فهو موقوف لغرض عرض الصور الفوتوغرافية واللوحات الفنية. ولئن حدّد المعمار "مواقع" الدخول والخروج للمجمع، فانه ومن خلال توزيع وحداته الموقعة "بالصدفة"، أجاز لزائري المجمع التذكاري حركة التجوال بحرية ما بين تلك الوحدات المعيارية والتنقل بسهولة من الوحدات المغلقة الى المفتوحة لمشاهدة معروضاتها، وأحياناً الابتعاد وحتى الخروج عن فراغات وحدات المجمع بكاملها، ومن ثم الرجوع إليها من أية أمكنة يرغبون! بيد أن الأهم في خاصية هذا المخطط ونوعية تكوينه، هو السماح في إضافة مواقع وحدات معيارية آخرى، واستيعاب مهام التوسع مستقبلاً، من دون أن يؤثر ذلك على "بُـنية" التكوين الفضائي - الحجمي وأسلوبه المصطفى!
في هذا التصميم المبكر استطاع المعمار "جارلس كوريا" الشاب أن يظهر قدراً من ثقة عميقة في إمكانية اجتراح فكرة ما، يمكن بها التعبير عن "شكل" قوي؛ شكل، سوف نراه حاضراً مراراً وتكراراً في تكوينات منتج هذا المعمار الطليعي. بيد أن الأمر الجوهري في مجمع "غاندي سمارك سانغراهالايا"، يبقى تميزه واختلافه عن الأنصاب الوطنية الآخرى، التي تُلزم، عادة، زوّارها وتفرض عليهم الصمت والاستغراق في التأمل. لكن "نصب غاندي" ذا الحجم الضئيل للغاية وبالضد من تلك الأفكار، لا يوجب أو يطلب مثل ذلك الصمت. ذلك لأن المجمع الذي يصفه معماره بأنه محتشم ويتمتع بمقياس إنساني يبقى، متواضعاً وبسيطاً، وبالتالي يعبر بأمانة عن الرسالة الزهدية لمؤسس الهند الحديثة. وإذ تميل، كما يكتب عن عمارة هذا المجمع، احد النقاد ".. نزعة تشييد النصب التذكارية اليوم الى تحقيق أنصاب طنانة ومبالغ فيها، وحيث تسود حضور "العمارة النحتية" غالباً في المشهد، فإن مجمع غاندي يقدم طريقاً آخراً ومختلفاً. إذ لماذا تتسلط على جمهورك وتتنمر عليهم وتجبرهم على سلوك طريق خاص؟ لماذا تسعى وراء ترويعهم مثيراً هلعاً لديهم؟ فـ "كوريا" لا يجبرنا على الصمت، إنه ينتزعه، بلطف، منا"!
والحق، إن "جارلس كوريا" قدم لنا في مجمع "غاندي سمارك سانغراهالايا" بأحمد آباد، تصميماً مبهراً ولافتاً، فهو إضافة لكونه مختزلاً وبسيطاً وواضحاً كبساطة ووضوح أهداف الرجل ومبادئه الذي شيد المجمع من أجله، فان الحل التكويني له يتبدى، من ناحية آخرى، ذكياً وعميقاً في آنٍ معاً. نعلم بان "جارلس كوريا" تاق، حالما وصل الى وطنه الهند، الى خلق "توليفة"، تمزج بين القيم التصميمية المحلية مع مبادئ الحداثة المعمارية. وتشير بعض أدبيات النقد التى تعاطت مع عمارة "مجمع غاندي"، من أن المعمار الهندي المجتهد توصل الى مثل صيغة ذلك الحل التكويني الحاذق بإجراء فعالية "تناصية" Intertextuality مع التراث المعماري المحلي الهندوسي التقليدي المتمثل في صروح الأبنية الدينية التي لاتزال قائمة، وفي محاولة منه لتأويل وقراءة عمارتها مجدداً. وإذا كان الأمر كذلك، فثمة سؤال متوقع، يتعين طرحه بالضرورة، وهو كيف تسنى للمعمار إيجاد ربط بين الحل التكويني – الفضائي لمجمع غاندي المتسم على بساطة متناهية والمنطوي هيئته على أفقية واضحة، مع التعقيد الشكلي وثراء التفاصيل المتنوعة التي تزخر بها تلك الحلول التصميمية للمعابد الهندوسية ذات الهيئات الشاقولية الصريحة؟! واضح إنه من المتعذر، والحالة تلك (التي تكرس تميّز واختلاف عمارة النموذجين)، إيجاد مثل ذلك الربط. بل وأكثر من ذلك، ثمة تناقض ظاهري (تناقض صارخ، حتى!) يكمن بين نوعيّ مقاربة المثالين المذكورين؛ ومن ثم لا يعدو القول إياه، عن زعم إيجاد صلة ما بين النموذجين، بكونه لغواً لفظياً يجافي الحقيقية ولا يتتطابق معها. وهذا الأمر يحيلنا الى تقصٍ آخر معنى في إيجاد مرجعيات منطقية للحل التكويني الفاتن المقترح من قبل "كوريا".
يكاد يكون مخطط المشروع الأول الذي صممه جارلس كوريا في 1958، وهو "جناح النول اليدوي" في بومبي، (والذي يفترض أن يكون ذا تأثير قوي على نتاج كوريا المعماري اللاحق)، يكاد ذلك المخطط "يتطابق" بشكل كبير مع مخطط "متحف طوكيو" الذي صممه لو كوربوزيه ونفذ لاحقاً ما بين 1957 - 59، خصوصاً التشابه الحاصل من ناحية "الفورم" كشكل مربع ونظام حركة. بيد أن العلاقة بين المشروعين ما لبثت أن بقيت مقتصرة على ذينك الأمرين فقط، ما يبعد أية صلة لتتطابق تصميمي جاد بينهما. في تلك الآوان، كان المعمار "لوي كان" (1903 - 1975) Louis Kahn، قد انجز تصميمه "حمام ترنتون" في نيو جرسي بالولايات المتحدة سنة 1955؛ معتمداً على تكوين مصاغ جراء تكرار "وحدة" تصميمية على شكل مربع تحيط بفضاء مكشوف، جاءت هيئته على شكل مربع أيضاً. وتشي أشكال المربع المستخدم وأسلوب تسقيفه وكذلك مسانده الحاملة في "نيو جرسي" بذات الهيئة التي نجدها حاضرة بتطابق كبير في مجمع "غاندي سمارك سانغراهالايا"؛ ما يوحي بان مرجعية المعمار الهندي الشاب في عمله المتقن في "اشرام سابارماتي"، قد تكون، كما نعتقد، كامنة في ثنايا مقاربة عمارة "حمام ترنتون" النيو جرسي؛ تلك المقاربة التي أوضح معالمها "لوي كان" نفسه. إذ كتب، مرة، من أنه ".. يستعمل المربع لأجل الشروع في إيجاد حلول للمشكلة التي يتعاطى معها. فالمربع ليس خياراً لحل بمفرده. فاني أسعى أثناء مسار تقدم العمل، وراء إيجاد <قوى>، بمقدورها أن تفند هذا المربع وتدحضه"! بمعنى آخر ينزع المعمار العالمي الى تفادي استخدام المربع لوحده، مفضلاً توظيفه مع عناصر آخرى (حتى ولو كانت ذات اشكال مربعة ايضاً) تحاشياً لظهور فورم بمربع واحد. وقد يكون هذا النزوع هو الذي أوحى، لاحقاً، الى اجتراح مخطط مباني "مختبرات ريجاردس للأبحاث الطبية" (1957) في جامعة بنسلفانيا بفيلادلفيا في الولايات المتحدة، التي كرست حضور أهمية "لوي كان" في المشهد المعماري العالمي.
وعلى الرغم من هذا الاستطراد التحليلي الذي قمنا به، والذي نعترف بانه كان طويلاً ومتشعباً، تبقى نقطة أساسية وهامة تستوجب التطرق لها في كل هذة "الدراما التناصية". فقبل فترة طويلة، كتبت، ذات مرة، دراسة مسهبة عن <عمارة مسجد قرطبة الكبير>، ظهرت ثانيةً في كتابي "رؤى معمارية" المنشور قبل عشرين سنة في بيروت سنة 2000. أشرت فيها الى إحدى خصائص العمارة الاسلامية وقيمها الذكية المتجسدة في تكوينات ذلك المسجد الرائع. لا أنوي، بالطبع، الاسترسال مرة أخرى في إعادة ما كتبته سابقاً، فقط أشير باختصار شديد الى ما له علاقة بثيمة موضوعنا هذا، اذا كتبت ".." وبفضل وجود هذين العاملين (لا مركزية التكوين وتشابه معالجات الواجهات) اكتسب المبنى قابلية الانتشار والتوسع المكاني دون إخلال واضح بأصول التكوين المعماري المعبر وقيمه. وهذا ما حدث فعلاً لمسجد قرطبة. فعلى امتداد نيف وقرنين من السنين ظل الجامع يتوسع ويمتد في مختلف الجهات محتفظاً في الوقت ذاته بأساسيات التكوين المعماري المميز ومن دون الإخلال بها".
".. ويمكننا الآن، أن نستخلص من كل ذلك مفهوماً على جانب كبير من الأهمية، اتسمت بها تكوينات المساجد الشبيه بمسجد قرطبة، وهو ما يدعى "بالتكوين المرن"، أي قابلية المبنى للتوسع المكاني زمانياً دون خوف من إفساد التكوين المعماري للمبنى. وهذا المفهوم يعبر، في رأينا، عن خصوصية العمارة الإسلامية ومفرداتها. إذ لا وجود لمثل هذة القيمة التصميمية في نتاج الحضارات الآخرى، فمن العبث بمكان تطبيق هذا المبدأ على الهياكل الاغريقية أو الرومانية أو على تكوينات الكتدرائيات الغوطية أوغيرها من أمثلة العمارة العائدة للحضارات الآخرى، دون أن ينهار التكوين الفني لها أو يتغير". (رؤى معمارية، ص(58 -59). واختتمت موضحاً ".. ولقد استثمر هذا المبدأ الخلاق للعمارة العربية الاسلامية وتأويلاته في تطبيقات العمارة الحديثة من قبل معماريين محدثين يمتلكون خلفيات ثقافية متباينة.. ولعل دراسة متأنية لبعض أعمال "لويس كان" (1903 - 1975)، كفيلة بترشح هذا الجانب الابداعي في نتاجاته. والأمر ذاته يقال على بعض تصاميم المعمار الهندي جارلس كوريا (متحف غاندي في أحمد آباد.)...", (ص.61).
يذكر أن "لويس كان" عبر مراراً عن إعجابه بالعمارة الإسلامية وتأثره بها، وثمة دراسات وإشارات منشورة عديدة تشير الى هذا. (وقد زار مصر لأجل ذلك). فيما يخص "جارلس كوريا"، فإن ولعه واهتمامه بـ "التثاقف"، قد يفسر لنا طبيعة ونوعية ما أنجزه من عمارة.
وجارلس كوريا، المولود في 1930 في مدينة "سكندرآباد" ولاية "تيلانجانا" (وسط الهند)، يعد من أشهر معماريي الهند، وهو مخطط مدن أيضاً، أنجز العديد من المشاريع العمرانية التي حازت تصاميمها على تقدير واسع محلياً وعالمياً، حاصل على جائزة الميدالية الذهبية من "ريبا" البريطانية عام 1984، ونال جائزة الاغا خان سنة 1998، توفي في "بومبي" عن عمر 84 في سنة 2015.