لطفية الدليمي
ماذا عن عصر مابعد الجائحة الكورونية الراهنة ؟ ربما يكون هذا السؤال هو الأكثر أهمية في سلسلة الأسئلة الاستحواذية التي يتفكّر بها علماء المستقبليات وراسمو السياسات الستراتيجية على مستوى العالم بأكمله .
سأترسّمُ في الحيثيات التالية بعضاُ من المشهديات أو القراءات الفكرية لطائفة من الموضوعات التي أرى ضرورة إلقاء الضوء عليها لأهميتها الحاسمة في توصيف عصر مابعد الجائحة :
1. نهاية عصر الأنثروبوسين والشروع ببواكير عصر النوفاسين :
ليست مفاعيل الجائحة الكورونية كلها موتاً ودماراً وخراباً وصوراً كئيبة ؛ بل أن لها بعض الجوانب الإيجابية المحمودة ، ومن أهمّ تلك الإيجابيات هو التسريع بتنفيذ بعض المشروعات التي ظلّت رهينة التنفيذ المستقبلي بسبب نقص الجرأة والدافعية لتنفيذها . ستشهد السنوات القليلة القادمة الخطوات الأولى لولوج حقبة الانسنة الإنتقالية التي ستأذن بنهاية عصر الأنثروبوسين Anthropocene ( وهو عصر صارت فيه السلوكيات البشرية ذات مفاعيل - إيجابية وسلبية - مؤثرة في الطبيعة ) ومقدم عصر النوفاسين Novacene ( وهو عصر الذكاء الفائق الذي سيغدو فيه الإنسان البيولوجي مدعماً بالوسائط الميكانيكية والألكترونية ، وفقاً لتعريف عالم المستقبليات الأمريكي جيمس لفلوك James Lovelock ) .
2. السياسات النيوليبرالية شيء يختلف جوهرياً عن الرأسمالية :
من الطبيعي أن تتعالى الأصوات المنادية بموت الرأسمالية عند كلّ أزمة وجودية تعانيها البشرية ، ولعلّ هؤلاء المنادين يقصدون السياسات النيوليبرالية ( أو الرأسمالية المتأخرة طبقاً لمصطلحات المنظّر الثقافية فريدريك جيمسون Fredric Jameson ) – تلك السياسات التي هي بعض مواريث السياستين الريغانية والتاتشرية اللتين أطلقتا يد الأسواق الحرة المتغوّلة وأعلت شأن الإقتصاد الرمزي القائم على المستقات المالية بدلاً من عناصر الإنتاج الحقيقية .
إذن ، يبدو أن السياسات النيوليبرالية آن لها أن تنتهي ؛ لكن السياسات الرأسمالية سيعاد تكييفها إلى حد قد تبلغ معه مرتبة الرأسمالية التشاركية .
3 . صعود العلم وانكفاء السياسة :
سيتيحُ إنكفاء الجائحة الكورونية إمكانية غير مسبوقة في إعلاء شأن العلم باعتباره ممارسة بشرية ذات وجهين : وجه براغماتي يسعى لتحسين حياة الإنسان على الأرض وإمداده بالوسائل العملية القادرة على تعظيم قدراته وسعادته ، ووجه أخلاقياتي يقوم على على إعلاء النزاهة والبحث الدؤوب واعتماد النزعة الشكوكية في نقاربة المعضلات الوجودية وعدم الإرتكان لوجهة نظر واحدة أو رؤية محددة .
كلنا نعرف أن السياسيين مقامرون بصيغة أو بأخرى : هم يفضّلون النتائج السريعة التي يجتنون منها مكسباً على الجهود طويلة الأجل التي تتطلّب تضحيات بالمواقف الآنية ، وقد أبانت الجائحة الكورونية أنّ هذه البراغماتية السياسية القبيحة التي لو كنّا قبلناها من قبل على مضض فلن يكون مقبولاً الإبقاء عليها في قادمات الأيام .
من جانب آخر لامناص من إشاعة الإهتمام بالعلم والسياسات العلمية على أوسع نطاق بعد أن أثبت العلم أنه مقاربتنا الوحيدة للتعامل المعقلن مع الطبيعة والكشف عن القوانين الحاكمة لعالمنا الفيزيائي ، وسيتبع هذا الإهتمام غير المسبوق نكوص الأصوليات ( الدينية والآيديولوجية ) التي تعتمد اليقين مقابل الفكر الشكوكي الذي يسمُ الفكر العلمي ، وقد عبّر بروفسور الفيزياء النظرية ( جم الخليلي ) عن هذه الحقيقة بطريقة رائعة عندما كتب في مقالة حديثة له بعنوان ( شكّ العلماء ويقين السياسيين ) نشرها في صحيفة الغارديان البريطانية : " لم يكن يوماً ما ثمة ماهو أكثر أهمية من إشاعة الفهم الخاص بكيفية عمل العلم : في السياسة يُنظرُ إلى الإعتراف بارتكاب خطأ ما على أنّه شكل من أشكال الضعف والوهن ؛ في حين أنّ الأمر معاكسٌ لهذا تماماً في العلم حيث يكون إرتكاب الأخطاء حجر الزاوية في المعرفة . إنّ إستبدال النظريات والفرضيات القديمة بأخرى أكثر حداثة ودقّة هو أمرٌ يتيحُ لنا إكتساب فهمٍ أعمق للمادة العلمية موضوعة البحث ، وفي الوقت ذاته نحنُ ( أي العلماء ) نطوّرُ نماذجنا الرياضياتية ونشكّلُ تخميناتنا تأسيساً على البيانات والشواهد المتوفّرة لنا . بقدر مايختصُّ الأمر بشيء جديد على شاكلة فايروس الجائحة الكورونية فقد شرعنا من خط بداية واطئ من المعرفة ، وكلما راكمنا المزيد من البيانات الجديدة فإنّ نماذجنا وتخميناتنا ستستمرُّ في التطوّر والتحسّن " ، ثم يختتم مقالته بالعبارات المشرقة التالية : " إذا كنّا نتطلّعُ بحقّ لتجاوز معضلة الجائحة الفايروسية الراهنة فيتوجّبُ علينا جميعاً أن نحوز فهماً أساسياً للكيفية التي يعمل بها العلم ، فضلاً عن إمتلاك القدرة على الإفصاح بأننا ( وفي خضمّ أزمة كبيرة مثل الجائحة الحالية ) إذا ماأبدينا شكوكنا ( إزاء نظرياتنا وسلوكياتنا العلمية الراهنة ) عوضاً عن التظاهر باليقين فإنّ هذا الأمر هو مصدر قوة لنا " .
4. أخدوعة هشاشتنا البشرية :
لعلّ عبارة ( الهشاشة البشرية ) هي أكثر العبارات التي تشيع في ظروف المعضلات الوجودية الكبرى ، ويتقصّد المنافحون عنها وضعها في سياق لاهوتي يشي بالمقدرة الكونية الفائقة والساحقة إزاء القدرة البشرية وبما يؤكّد ضآلة الكائن البشري وتفاهته وعدم تفكّره في هذه الحقيقة إلا عند الجائحات التي تقرّبه من حقيقة موته المحتّم ، وممّا يفاقم من حدّة هذه الهشاشة المزعومة الترديد الببغاوي لأسئلة من نمط : كيف يمكن لفايروس لايرى بالعين المجرّدة أن يقتل إنساناً مدججاً بكلّ القدرات العلمية والتقنية الهائلة ؟ واضحٌ أنّ من يطرحُ أسئلة بهذه الصياغات القصدية الملغّمة إنما يمرّرُ فكرة مضمرة قوامها فكرة العقاب الأبدي الذي يستحقه الكائن البشري.
ليست الهشاشة البشرية عيباً أو مثلبة : قد يشعر الإنسان بهشاشته في مواقف وجودية بعينها وهو يواجه حقائق الموت والشيخوخة والمرض والعجز وفراق من يحب ،،،، إلخ ؛ لكنّ هذا لايلغي القدرات العظيمة المخبوءة في روح الإنسان والتي تتحفّز بكيفية غير مسبوقة متى مااستشعرت عوامل الخطر ؛ وعليه فإنّ المنافحين عن تدعيم فكر الهشاشة البشرية ليسوا سوى كائنات تستطيب رؤية الكائن البشري محطّماً كسير الجناح بقصد تمرير أجنداتها التي تبتغي تعظيم المكاسب على حساب معاناة البشر وموتهم وتهشيم روح العنفوان والإبتكار لديهم .
5 . نكوص الفكر الرغائبي والسرديات الكبرى :
تشيع في أيامنا الموبوءة بالجائحة الكورونية أفكار لاتعدو أن تكون تمثلات لفكر رغائبي Wishful Thinking يشيعه بعض أكابر أقطاب الفكر العالمي ( تشومسكي مثالاً ) : إنهيار الإمبراطورية الأمريكية ، تصدّع التكتلات الكبيرة ( الإتحاد الأوربي على سبيل المثال ) وإعادة إحياء الدولة القومية المدعمة بصبغة دينية ( على شاكلة الإتحاد الروسي ) ، صعود الإمبراطورية الصينية كقطب أوحد بديل للقطب الأمريكي ،،،، إلخ . قد يحصل شيء من هذا في السنوات او العقود القليلة القادمة ؛ لكنه لن يتخذ سمة السردية الكبرى ( على شاكلة نهاية التأريخ ) بقدر ماسيكون إنعطافة هادئة تمليها ضرورات براغماتية وليست آيديولوجية .
الفكر الرغائبي والتمسّك بالسرديات الكبرى الجامعة المانعة ليس سوى خصائص لصيقة بالعقل العاجز غير القادر على الفعل المرئي على الأرض .
6. إعادة هيكلة التعليم والسياسات التعليمية :
أرى من جانبي أن هذه التغيير الجذري الذي سيطالُ التعليم في السنوات القليلة القادمة هو المَعْلَمُ الأعظم الذي سيسودُ حياتنا في عصر مابعد الجائحة الكورونية ، وسيمثّلُ هذا التغيير قاطرة ستجرّ وراءها سلسلة ممتدة من التطويرات الثورية على كلّ الأصعدة وبخاصة في ميدان مغادرة المرجعية القائمة على نمط الثنائية الأزلية ( المعلّم / المتعلّم ) لصالح منظومات تعليمية يكون فيها المتعلّم مرجعية لذاته ، يعرفُ متطلباته وكيفية التعامل معها بطريقة كفوءة تختصر الكثير من الوقت والجهد والمال والموارد البشرية .
أصبحت البرامج التعليمية الرقمية المجانية في السنوات الأخيرة معْلَماً أساسياً من معالم التعليم في عصرنا الحديث ؛ فثمة برامج مهمة أذكر منها برنامجين مميزين هما الأكثر فرادة بين برامج التعليم الرقمي من حيث مفردات البرامج والمنصات التفاعلية والجهات الأكاديمية التي تدير هذه البرامج : البرنامج الأول هو ( Edx ) الذي يديره معهد ماساتشوستس التقني ( MIT ) وجامعة هارفارد ، والبرنامج الثاني فهو (Coursera) الذي تديره جامعة ستانفورد إلى جانب جامعات عالمية مشهود لها بالرصانة العلمية . تُنشر بين حين وآخر تقارير إحصائية لبيان أعداد المستفيدين من هذه البرامج التعليمية ، ويُلاحظ أن الصينيين والهنود وبعض أبناء جنوب شرق آسيا يأتون في طليعة المستفيدين من هذه البرامج الدراسية وبخاصة في موضوعات الرياضيات والفيزياء والبرمجة الحاسوبية ولغات البرمجة وتعلّم اللغات الأجنبية ( وبخاصة الإنكليزية )؛ الأمر الذي يكشف أن هؤلاء يعدّون العدّة منذ وقت مبكر في حياتهم لترسيم صورة المستقبل الذي يريدونه لأنفسهم وبخطوات محسوبة بدقة ووعي ، وفي العادة يرى هؤلاء في تلك البرامج الدراسية كنزاً ثميناً تنبغي الاستفادة منه إلى أبعد الحدود الممكنة ، وليس غريباً أن نقرأ بصورة دورية عن شباب آسيويين يافعين في حدود العاشرة من أعمارهم - أو أكثر بقليل - وقد أكملوا برامج دراسية علمية وتقنية تكفي للحصول على درجة البكالوريوس بتفوق (وربما حتى الماجستير في أحيان أخرى) .
7 . الثقافة البيئية ستكون عنصراً جوهرياً في رسم السياسات العامة :
قد يسمع الكثيرون - وهم غير مكترثين - بمفردات من قبيل : الإحترار العالمي ، ارتفاع نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الجوّ ، ظاهرة غازات الدفيئة ، ظاهرة النينيو.. إلخ ، ولا يكاد يرفّ لهم جفن ، والحقّ أن تقصيراً معيباً يسمُ سلوكيات الأفراد إزاء هذه الظواهر فضلاً عن ثقافتهم العامة في الموضوعات البيئية ؛ إذ على الرغم من كثرة المواد الإخبارية والإعلامية بشأن التغيّرات المناخية الشاذة فلايبدو ثمة بديل عن جهد فرديّ مواظب لمعرفة أدقّ تفاصيل هذه الظواهر ومساءلة الكيفية التي يمكن بها للفرد المساهمة في تقليل آثارها المهلكة ، والفعل الجاد - كما نعلم - يأتي لاحقا للمعرفة الرصينة بكلّ أبعاد الموضوع وإلى حد معقول بالنسبة للمواطنين من غير المتخصصين .
قد يظن البعض بأنّ ظواهر غريبة مثل هذه تستلزم جهودا عالمية وقدرات حكومية ضخمة ولن يكون دور الأفراد مؤثّرا فيها ؛ غير أن هذا خطلٌ كبير يُراد منه التعتيم على دور الأفراد ، وعلينا ألاّ ننسى التأثير الجمعي للكتلة البشرية التي تتجاوز السبعة مليارات نسمة ، أما ماذا يمكن للفرد أن يفعل بهذا الشأن فذاك موضوع قراءة اختصاصية ، ولكن لا بأس من ذكر القليل المؤثر منها : ضبط استهلاك المياه ، تقليل استخدام المحروقات العضوية ، المساهمة في زيادة رقعة المساحات الخضراء ، ترشيد استهلاك الطاقة الكهربائية .. إلخ .
لم يعد الخوض في الموضوعة البيئية ترفا وبخاصة في أعقاب الجائحة الكورونية ؛ فقد تنبّهت أغلب البلدان - المتقدمة والتي في طور الارتقاء - إلى خطورة هذه الظاهرة التي ستكون الظاهرة المؤثرة على مجمل السياسات العالمية في السنوات القليلة القادمة ، وبلغ الأمر حدّ اعتماد ما يسمّى ( الثقافة البيئية ) التي تعدّ اليوم فرعاً حيويّاً ضمن السياسات الثقافية ، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل بلغ حدوداً أكبر تتغلغل في معظم المفاصل الحياتية للمجتمع ، وأذكر، على سبيل المثال ، أنّ نوعاً أدبياً روائياً بات يدعى الرواية البيئية نال حظوة كبيرة في السنوات الماضية وظهرت روايات كثيرة جعلت البيئة ثيمة رئيسية لها، هذا فضلاً عن الإهتمام التعليمي منذ المراحل المبكرة بتعليم الموضوعات البيئية بسبب المعرفة الاستباقية بخطورة الموضوع وجوهريته لبقاء الجنس البشري واستدامة عناصر ديمومته الحيوية .
نحن على أعتاب كارثة بيئية خطيرة ومدمرة ستتفاقم مفاعيلها في السنوات القليلة القادمة ، وما لم نحشّد كلّ الجهود الفردية والحكومية لمواجهتها فسنكون بمواجهة مشهد قيامي مريع في القرن الحادي والعشرين .
8 . مستقبلنا البشري يعتمدُ على سياسات انسانية تشاركية بدلاً من سياسات القطائع الآيديولوجية والاقتصادية :
لاأظنّ أنّ أحداً بوسعه نكران حقيقة أنّ الجائحة الكورونية إنطوت على الكثير من التضحيات البشرية والخسائر المادية ؛ لكنها تذكرة لنا بضرورة إعتماد سياسات تشاركية أوسع على الصعيد العالمي بدلاً من تكريس حالة القطائع الآيديولوجية والسياسات الأنانية الضيقة . نحن كلنا بشر نستوطن كوكباً ليس سوى ( نقطة زرقاء شاحبة ) في الفضاء الكوني الشاسع ( بحسب توصيف كارل ساغان ) ، وعلينا تقع مهمة حمايته وتوريثه بصورة مقبولة للأجيال اللاحقة . لنُصغِ ملياً إلى هذه الكلمات النبوئية المليئة بالحكمة المعتّقة وهي تردُ على لسان أحد حكماء ( غوروهات ) القرن العشرين ، بيتر مدوّر Peter Medawar :
( الأجراس التي تقرعها البشرية هي في معظمها مثلُ الأجراس المعلّقة في رقاب الماشية التي ترعى على مقربة من سفوح جبال الألب ؛ فهي معلّقةٌ في رقابنا نحنُ سكّان هذا الكوكب ، وسيكون بالضرورة خطأنا غير المغتفر إذا ماأطلقت تلك الأجراس أصواتاً ناشزة لاتبعث على البهجة ) .