ثائر صالح
نتحدث اليوم عن كتاب البروفيسور ريتشارد دمبريل الباحث في علم الموسيقى الآثاري "نظرية الموسيقى السامية" (2019).
يحلل فيه نظرية الموسيقى البابلية ويحقق عددا من النصوص المسمارية. يغطي الكتاب الفترة بين 3200 ق.م. حتى القرنين الأول والثاني بعده، ويدرس فيه بعض النصوص المكتوبة باللغتين السومرية والأكدية ليستعرض لنا أقدم نظرية موسيقية متكاملة لا يوجد مثلها في كل أرجاء العالم حسبما يقول.
سبقت نظرية الموسيقى البابلية النظريات اليونانية بقرون عديدة، إذ بدأت العلوم البابلية بالانتقال الى اليونان في حدود القرن الثامن ق.م. مع انفتاح اليونان على الشرق، ومنها انتقلت الى الرومان فيما بعد بشكل غير مباشر. ويصف دمبريل انتقال نظرية الموسيقى البابلية الى اوروبا لاحقاً عبر "نهب مكتبات المشرق العربي منذ أول حملة صليبية قادها أوربان الثاني [بابا الكنيسة الكاثوليكية 1035 – 1099م] في أواخر القرن الحادي عشر، وما تلاها من حملات صليبية". ويقول "أقدم مخطوطة تحفظ النظرية اليونانية القديمة في الموسيقى موجودة الآن في جامعة هايدلبرغ، نسخها نيكولاوسكالّيغرافوس على الضفة الغربية لدجلة في وادي الرافدين في 14 كانون الثاني سنة 1040م." في إشارة الى مدينة سلوقيا المقابلة لطيسفون على الجهة الاخرى من دجلة.
يعود أحد الألواح الى المرحلة البابلية القديمة حوالي 1850 ق.م. اكتشفه ليونارد وولي (1880 – 1960) وفيه تعليمات حول تغيير ميزان أوتار الأدوات الموسيقية وفقاً لأجناس المقام التي هي الأبعاد الموسيقية المكونة للسلالم / المقامات.
اللوح الآخر من مكتشفات وولي كذلك، هو جزء من الجداول السومرية الأكدية، ويعود الى الفترة البابلية الحديثة حوالي 800 ق.م. المثير في الأمر أن النص يذكر أسماء أوتار القيثارة ذات الأوتار التسعة التي كانت شائعة على المنحوتات بين 3200 – 2600 ق.م.، لكنها اختفت واهملت بعدها وحلت محلها أدوات موسيقية أخرى. هذا يعني أن نظرية الموسيقى البابلية تعود الى جذور سومرية، وأنها قد تبلورت مبكراً ولم تتغير كثيرا خلال ألفي عام تقريباً.
وهناك لوح من نفّر يعود للمرحلة البابلية الحديثة في حوالي 600 ق.م. يبدو أنه تمارين لتصوير الأبعاد الموسيقية ونقلها الى درجات أخرى. أعطي لهذه الأبعاد أسماء دالّة اندثر معناها مع الزمن. ويفترض دمبريل ان أسماء هذه الأبعاد الموسيقية مماثلة تماماً لما نعرفه في الموسيقى العربية، بالتحديد في استعمال أسماء الأجناس.
يخلص دمبريل ان النظام الموسيقي البابلي استعمل كذلك في العهد الإسلامي أو ربما قبل ذلك بإضافة عدد آخر من الأجناس وباستعمال أسماء تقابل الأسماء البابلية للأجناس. في هذا الصدد يقارن دمبريل أجناس مقام العجم مع "المقام" البابلي المسمى "إيشارتوم" ويعتبرهما متشابهين.
ويحلل دمبريل كذلك لوحاً من راس الشمرا (أوغاريت، سوريا) عثر عليه كلود شيفر، وهو مكتوب بالرموز المسماربة لكن باللغة الحورية استعمل فيه النظام الموسيقي البابلي، وهو لوح وصل لنا كاملاً تقريبا بعد لصق الأجزاء المكسورة الثلاثة، دونت عليه أغاني وأسماء مؤلفيها للمرة الأولى في تاريخ الموسيقى. وقد قدم دمبريل اغنية حورية من هذا اللوح في دمشق سنة 2011، واندهش عنما شعر الموسيقيون الحاضرون بأن هذه الموسيقى ليست غريبة عليهم، وبدأوا يحللون أجناسها فتوصلوا الى البيات والحجاز. هنا يشير دمبريل الى العلاقة الوثيقة بين النظام البابلي والنظام المقامي المعروف الآن.