TOP

جريدة المدى > عام > الراوي مبتكر ومُخلِق للسرديات

الراوي مبتكر ومُخلِق للسرديات

نشر في: 3 أكتوبر, 2020: 08:11 م

ناجح المعموري

- 4 -

للأنثى مواقد عديدة ، متنوعة ، كلها معاً تمنح ، وتعطي دروساً ، تكمن بالذاكرة ، ولا تغادرها ، هي ــ الأنثى ــ عسل ذائب ، موقدة رماده ، هبته مجهولة وقوية .

للحرب ظواهر ، احتراقات ، ميتات ، أطراف مبتورة، عقول تالفة انهيارات ....الخ والتراجيديا التي تستعيدها الحياة وتضفي عليها الذاكرة ، ويتكفل التاريخ بتخزينها وتدوينها وتفعيل الشفوية للتعايش معها . كم خسرت الحياة من جمالياتها ، وانبعاثاتها ، وتجددها ، لا وجود للتجدد . فالخصوبة معطلة .

الأمّ جف رحمها وتناست وظيفتها الأسطورية وتعايشت مع ميتات غفيرة متوقعة ، وليست مفاجأة فالأم العظمى / الأرض التي انفتحت لماء القلب الهابط لها من ذكورية الإله آنو ، رئيس مجلس البانثيون في العراق القديم وارتوت وأغرقها باتصالاته الثنائية الطويلة ، والعديدة ، وبعد استراحة قليلة ، أينعت ، وانبعث منها الكثير وازدهرت كلها . لكن للتراجيديا فصولها وجفافها وميتاتها . الأمّ لا تقوى على التعايش مع الموات ، فلابد من فاضل ابو الحشيش .... موجود حيث ينمو العشب اليابس .

مهمته الأساسية في الحياة تتلخص بحش العشب والمزيد من العشب لا اكثر .... / ص 172//

وزحمة الشماعية تمظهر عن تراجيديات كبيرة ، لكل واحد تعطلات عديدة من افراد العائلة . والجنون موت ، له طقوس وسحريات استعادت المقدسات لتحصن ذاتها وطاقتها من اجل استعادة العقل . الموت الفسيولوجي أخف حضوراً وقسوة من ديمومة الجنون وما يتبدّى عنه . مستشفى الشماعية اتسعت مساحتها في السرد ، وانفتحت منافذ البحث عن مجنون تهيكلت حوله الرواية ، وتمركز ثنائي الذكورة والأنوثة فيها ، وللراوي أساطيره معها ، وهما قاداه لأساطير خاصة . ولكل منهما ما يميزه عن غيره .

للحرب ميثولوجياتها ، لا أعني الدمار والموات والحرائق ، بل اللذائذ وابتكار التسلل للذائذ في لحظة التعرف عليها والدنو من تخيلات ، واستعادت لفصول اكتشاف ما لا يعرفه المذكر ، واستعادة ما عرفته الأنثى بوصفه أحد أعظم أسرارها وخصائص جسدها الملغوم كله .... فيه من التوترات ما هو غفير ... كل جزء في جسد الأنثى فاعل ، يفضي للتفجر وتدفق ماء القلب ... وما حصل مع بتول بزمن الحرب الايرانية . التي احرقت ودمرت الكثير وتسلل بتول المجاورة له حرب من نوع جديد ، غير مألوف ... لها طقوسها وابداعاتها ، الرغبة اغوت وليس الشيطان . وأسطورة الاكتشاف الأول هي الأصل البدئي عندما تسللت فأرة بين فخذي الراوي ، جعل منها واسترضى دغدغتها ... وتكورت اليد وصاغتها فرجاً هو الذي احتضن الكائن بجلالة وقوفه وتحيته بالضغط والترطيب أساطير عشتار بدئية ، متجددة سمتها الإلهية جعلت من الأنثى جسداً يركض الى التعرف والدنو للآخر وأسطورة الاحساس بدبيب ما هو سري كامن في الصلب والترائب ( مددت يدي بدوري وانا ازدرد لعابي بصوت مسموع ، فالتقيت يداً دافئة ... خمسة أصابع اطبقت على كفي برجاء . بتوسل كانت حركة خرساء ، لكنها تستجدي الصمت في دعوة مبطنة للمزيد من المتعة ! .... لم تكن غير يد بتول ، .... كان لهاثي قد تصاعد دون ان ادرك حقيقة ما يجري فتلك كانت اول مرة المس فيها نهداً حقيقياً يصرخ بالرغبة .... قبضت عليه وهو في ذروة توتره ... وأخذت تحضنه بحركات مجنونة وكأنها تحاول أن تقلعه من موضعه فحاولت عبثاً كتم أنفاسي وفي ظني أننا تسببنا في إيقاظ النائمين كلهم ......

" .... بقيت محتفظة بلذتها الفريدة التي لم تتكرر حتى مع بتول نفسها برغم أن علاقتنا تطورت الى علاقة جسدية كاملة استمرت على مدى اعوام !

لا تعرف الأسطورة العشتارية الاندثار والسبات ، بل هي متحركة عبر الأزمنة والعصور ، والراوي يريد حفظ أسطورته مع بتول والحفاظ عليها ، والتستر على تفاصيلها ولذاكرة الجسدين علامة معروفه لهما " في إحدى المرات عثرت على منديل أبيض مندس على صندوق أبيض في إحدى الغرف ، تذكرت أنني وجدته بين أصابع بتول ذات يوم ، فالتقطته وقربته من أنفي لأشممه قبل أن اجهش في البكاء / ص 128//

التقاط المنديل الأبيض رسالة مبتدأ واعلان لها عن براءة حقيقية ، فثوران الجسد لا يعني انحرافاً وبغاء مثلما كان في بدرة وتقديم المنديل لها اعتراف ببياض جسدها لذا قال لها : 

ــ جئتك بمنديلك 

تكلمت حال دخولي واطباقي الباب خلفي ، وكنت قد اخرجت المنديل من جيبي عارضاً اياه عليها ، فاختطفته مني بحركة سريعة لتلقي عليه نظرة عابرة وهي تسألني بخبث : 

ــ أحقاً جئتني لإعادة هذا المنديل ... فقط ؟

.... لكني فوجئت بها تقول قبل أن افتح الباب : 

ــ أعلم سبب قدومك 

ــ ما حصل حصل وأنا شبه نائمة ، والظلام مخيم وصمتت من جديد قبل أن تسترسل :

فلا تحكم عليّ من خلال سلوكي ذاك / ص 129//

والباب أول العلامات التي تصورتها البنية الأسطورية السومرية ارتباطاً مع المعبد وهي مجال حيوي في طقوس الجنس المقدس وهي أيضاً رمز بضلفتيها للفرج الانثوي .

يتسع الباب رمزياً في التداول والاتصال ويستوعب بضلفيته للفرج الأنثوي . والباب المغلق زمناً طويلاً تعطل اقتران الفتاة . الباب دال على تكريم للزائر ، ودعوة لمنتظر ، أو انتظار لحضور والخطاب الشفاهي كنية لها طاقة التحذير . وأشارت الامثال الشعبية الى : الباب التي تجيء منها الريح ، إغلقها واسترح . تحتفظ الذاكرة الشعبية بأسطورة التمني مساء 15 شعبان ، لأن المرأة المنتظرة لحلم لها تطلب تمنييها عندما تنفتح باب السماء وتفوز المرأة بما تريد وتحلم به .

كما أن الباب رمز القوة والى زمن قريب هي تعني " الباب العالي " الدالة على الإمبراطورية العثمانية ويشير لها الطربوش والسوط وهما ما حمله اسكندر بيك في ايامه الاخيرة معلناً بهما عن مكانته وسطوته وقسوته .

وتم اكتشاف أحد الاختام الأسطوانية في مدينة أوروك ينطوي على باب رامز لمعبد خاص للالوهة المؤنثة . ولوظيفة هذا الباب انثوية ، بمعنى العبور والدخول .

وقال العالم مارسيا الياد : إن العبور من الباب الضيق هو امتحان صعب ومعقد .

كان صرير الباب الخارجي آخر ما تناهى الى سمعه لحظة اتخذ سبيله جنوباً ... 

وصل الى الراوي ، فاستدار يساراً مجتازاً الشريط الترابي الضيق حيث وقف فوق الجرف المرتفع ملقياً نظرة الى الاسفل . كان خرير الماء وحده يسمع ، وثمة طائر قبرة اطلق صرخة ثاقبة في انخطافه فوق رأسه نحو زرقة السماء صرخة اشتهاء " هاجر " التي تستيقظ في جسدها كلما نزلت الى النهر ، جسدها يدعو للتماس ويلبي النداء .وهذا الطير الصغير الحجم جداً وأيضاً طائر ابو الزعر " يشيران لصغر حجمها واكتضاض الجناحين على الجسد ، يومئان الى عضو الانثى .

وتبدّى لي انا اقرأ هذه الرواية بصمت وهدوء بأن الركابي جعل من استعمالات اليومي معجماً سردياً ، تنوعت توظيفاته الرمزية . وهو مقتدر ، وشاعر عارف بتكوين سياق السرد المركز والدقيق وخلق رموز هو بحاجة اليها وخصوصاً الجنسية ، بالإضافة الى ذاكرته المختزنة لكثير من منتوجات الميثولوجيا في الشرق بالطقوس والسحريات والاساطير وما فيها من فيوض ، يتصرف بها ويوظفها لما يريد الاقتراب إليه من خلاله.

خطط بذكاء ودقة واستحضر ما في جسده من قوى ورسم آلية النزول النهر وتحديد الوقت الذي تختاره هاجر لسبب معروف وهبط للنهر ، غاص فيه مقتحماً المخاوف للخلاص من العالق به ، الأخت الكاشفة عن رغبة جسدها واطلاق نداءات دعوة ، لا بل استنجاد للتخلص من فوران المخفي ومحاولتها المتكررة باستمرار هي النداء الصريح للانضمام شاب أو رجل ، لأنها تؤمن التمكن من المتعة ، يعني التقاط اللذة التي تريد هي الفوز بيوم جديد من حياتها . ولم تكن متكتمة على ذلك ، بل تجاهر ( اعتادت الاستمتاع ، كما يبدو ــ الى التحديق فيه بعينها الحولاء ، لتسحب بعدها رباط لباسها الداخلي وتطلقه بتلك الطريقة المستهترة التي تجعل الافواه كلها تصهل بضحك جماعي / ص 239//

انشغل نديم بنقاوة العرق وضرورة الخلاص من لوثة الأب التي خلفت وراءها ما هو معيب . واهتمام نديم العرق العثماني متبدّ بوضوح في مكررات السرد وظل الطربوش والسوط أبرز ما يدل على ذلك . يقظة الجسد العشتاري عربدة لا تقوى على قمعها ، لحظة ما تجد دنو الامكان لممارسة ذلك وتشبك الباحثة عن الضائع والحالمة باصطياد رغبة لها مبتعدة كالعاصفة ، لكنها استكانت ( ... فاذا بي أفاجأ بيد بتول الدخلية وقد عادت تمسك بكفي بأحكام تقودها بإلحاح الى فتحة ثوبها حيث انغمرت أصابعي بسخونة نهد متعطش للضم والشدّ !! فتلك كانت اول مرة المس فيها نهداً حقيقياً يصرح بالرغبة / 106//

صدر الأنثى مركز توترات الجسد ، والطاقة الجاذبة ودائماً ما تجعل الأنثى منه بؤرة تستولد بمطاردة عيني الآخر مثيراً لها . واستثاره صدر بتول وحاس عليه وربما لذلك اصول بدئية مبكرة للغاية بثنائية الابن / الرضيع والام . ومعاودة الشخص بعد وقت متأخر العلاقة مع صدر الأنثى / أو المرأة ذات عتبات لها علاقة بالرضاعة الأولى .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram