ناجح المعموري
يفاجئنا القاص سمير غالي في قصته بعنوان (حقل المحار) التي نشرها في المدى الأسبوع الماضي، بابتكار أسطورته على اليابسة وجعل من العنونة استهلالاً بدئياً،
وأعتقد بان سمير غالي أول قاص اختار عنونته استهلالاً، انفتح على على وحدة السردية الأولى التي تحولت الى صوت حكائي مهم، نجح برسم حدود شخصية هاشم محارة، المروي عنه بذكاء يقترب من الحرفة السينمائية بوضوح تام. مثلما جعل سمير من هاشم محارة أسطورة، لأن الجماعة منحته انتماء لأمهِ المحارة. وهنا تحقق قلب أسطورة أفروديت ذات الأصول الشرقية والتي اقتربت من أنانا/ عشتار السومرية التي عرفها سمير غالي جيداً. لكن لم يذهب لآلهة سومر، بل ابتكر تمثيلا لها وهي أفروديت التي ذكرتها المحكيات الأسطورية بانها ولدت من محارة في البحر. وأعتقد أن هذا الحكي جعل منها ذات عنصر ثقافي مهم جداً قادها الى لحظة أنانا/ عشتار بخصائصها المتميزة بتنوعات طاقاتها الجسدية ومعرفتها بالأنوثة التي ظلت كامنة بجسدها وحازت كل ما تميزت به أنانا/ عشتار. وافروديت/ المحارة هي الرمز الدال على الحوار بين حضارة سومر وجغرافية الشرق. وأصبحت الصفة الأمومية الممنوحة صفة لها نوعاً من الغرابة واثارة الأسئلة، ومثل هذه الصفة اضافات شائعة تدل على علاقة وثيقة بين الأم ووليدها، واعتقد أن هذا الانتماء هو تعبير ثقافي وسوسيولوجي ينطوي على تجوهر الحضور الأمومي بعد انهيار خطابها الكبير في فجر الصراع بين ثقافة/ خطاب الأمومة والفحولة والذي تمظهر عبر العديد من الأساطير والملامح، ولعل ملحمة الخليقة البابلية وملحمة كلكامش، أبرز ما يشير لذلك.
هاشم محارة، شخصية ابتكرها سمير غالي بذكاء المجال الحكائي الذي ظل مشدوداً للأصل الأول الموروث من خلال السرديات. لم يكتف سمير غالي بذلك، بل تعمق بتأطير شخصية هاشم محارة بالسرية (( لا يعرف أحد من الحراس الليليين عنوان بيته)) وأعتقد بأن سبب ذلك هو غياب النواة الاجتماعية/ الأسرية، لا وجود لكائن يومي له. فهو وحيدٌ، لا يمتلك في حياته غير صفته المحارية التي ظلت ممتدة ذات سيرورة متجوهرة في السرد، حاضر وتبدأ لحظة غيابه، مفارقته لمبنى الكلية منذ الفجر وهو يتخذ ذات الدرب الخاص بالقطار. وهاشم محارة كائن متحرك يلتصق عند المغادرة بالخرائب المحيطة بالمدينة وتستدعي حركته نباح الكلاب.
هاشم محارة أسمر، شارف على الستين، لم تفارقه الكوفية دائما، وتحيط وجهه المجدور لحية بيضاء شذّبت بعناية. دخلت شخصية هاشم محارة في الوحدة السردية السرية، وكأن سمير غالي يعرف آلية الاعلان عن الشخصية والكشف عن معلومات غير معروفة عنه ((جاءنا منقولا بعقوبة من كلية تمتاز البنات فيها برقابهن الطويلة المخنوقة بعقود اللؤلؤ. وطالما سألناه عن تلك الرقاب، لكنه كان يزمُّ شفتيه بخيط من الأسى ويغادرنا متذرعاً بما فاته من الصلاة، فيختفي طيلة الليل، ولا يظهر الاّ عند الفجر، معروق الوجه، وقد ابتلّت لحيته بالدموع)).
لأن سمير غالي مبتكر الأسطورة، لديه خبرة ما يجعل سرده مقترنا بها، وأهم ما انكشفت من خصائص بن محارة هو صوفيته، وهذا ما جعله وحيداً، يحرره الفجر ويقوده لعمله أيضاً، لأن للفجر لون لا يبتعد عن زبد المحار في البحر.
متصوف يؤدي طقوسه باكياً، ربما على خساراته المتنوعة في الحياة، ووسيلته الموجعة البكاء. لا يمكن للقاص سمير غالي هجر الثيمة المبنية مع هاشم محارة، بل لابد عليه أن يستولد ما يجعل البنية الأسطورية حاضرة، متنامية، لذا انحرف بابتكار جديد وهو ما حصل من ظاهرة جديدة وهو ملمح البنات في الكلية كل صباح برقابهنَّ الطويلة المطوقة بعقود اللؤلؤ، مما جعله يقتفي آثار هاشم محارة بعد اختفائه ذلك الغروب.
الكشوف مقترنة بالليل/ الظلمة، والفجر، فالسرّيّات ليلية والتعرّف انكشاف المحارة وتسلل الآلهة التي انطوت على تمثيلات انانا/ عشتار. كانت العتمة واستدعت المصباح الصغير، وذهب الحكواتي باحثاً عن كل الأماكن في الكلية حتى يكتشف السر المختفي. السكون حاضر في كل المكان ولا شيء غير ((صدى إيقاع تحدثه قطرات تسقط بتتابعٍ مملٍّ داخل الحوض من حنفية معطوبة.)).
والقطرات تتساقط، هي بذرة المحارة وأسطورة الجسدالذي أكّد حضوره المشتعل في أعماق هاشم محارة وتفجّرَ أثناء طقوس صلاته وتخضّل لحيته بالدمع. بكاء الصوفي، المتدين يكرّس اشتهاء الجسد، وتساقط قطرات الماء، رمز يختتم الطاقة اللذيّة المتسربة من الجسد الذي أشعلته رقاب البنات المزينة باللؤلؤ.
دخل سمير غالي في مرتبة المجاز المتسلل للزمن الجديد الذي تحوم حوله أسطورة الأم محارة وهي تلملم كل ما موجود من لؤلؤ (( ليتني متُّ قبل تلك الليلة ولم أمرّ من هناك. كان ثمة نشيج يقطع القلب ينبعث من غرف المنازع حيث تستبدل البنات ثيابهن الرسمية بملابس التدريب. توقفت. دفعت الباب رويداً رويداً، وسلّطت دون حياء بقعة الضوء عليه. كان يضم الى وجهه بعضَ الملابس الداخلية ويبكي بحرقة تعزُّ على الوصف. لم أشاهده بعدها، أخبروني أنه قدّمَ طلبا ملحا بنقله الى كلية أخرى، لكنني لم أشاهد في حياتي كمية من اللؤلؤ، مثل التي شاهدتها في ملابس البنات تلك الليلة )).
تساقط قطرات الماء، سيول تدفّق فحولة هاشم محارة وهو يمارس رغبته المتكتم عليها، متصوفاً متستراً، باكياً وهو يؤدي صلاته. انكشفت الأسطورة وانكشفت أسرار علاقة جنسية متخيلة... تسيد عليها الخيال.
سمير غالي اقتحم علينا فضاء السرد، قادماً من فضاءٍ اعتدنا على اقتحاماته بوقت مبكر، وسنظل بانتظار ما سيأتي منها.