TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: من النسّاجات السومريات إلى بساط أم محمد

قناديل: من النسّاجات السومريات إلى بساط أم محمد

نشر في: 10 أكتوبر, 2020: 06:57 م

 لطفية الدليمي

حفّزني لكتابة هذه المقالة نجاحُ مشغل السيدة المبدعة ( أم محمد) في مدينة ( السماوة ) لإنتاج إزار السماوة وبساط السماوة الشهير بزخارفه المعروفة التي تميزه عن بُسط المناطق العراقية الأخرى .

تنتج النساجات والخياطات البارعات في مشغل ( أم محمد ) أجمل الأبسطة والإزارات ذات النقوش التقليدية والموتيفات المتوارثة منذ العصور القديمة بألوانها المبهرة وتنسيقاتها المدهشة ، كما ينتج المشغل أنواعاً من سلال الخوص الأنيقة ، وقد أخبرتني السيدة أم محمد بأن هدف مشروعها منذ البداية أتى لدعم المرأة اقتصادياً والارتقاء بمهاراتها ومنحها الثقة بقدراتها الكبيرة إضافة لهدفنا الأكبر وهو الحفاظ على تراث الحرف اليدوية العراقية . تفخر أم محمد بأن النساجات والخياطات البارعات في مشغلها أنتجن أعداداً كبيرة ومتنوعة من المنسوجات الجميلة والأبسطة الصوفية التي تنتظر التسويق المنظم . 

تراكمت عبر العصور الحضارية المتلاحقة تجارب ابداعية غنية لانظير لها أنتجها مبدعو وادي الرافدين الأفذاذ سواء على مستوى نقوش الملابس والأواني والأختام الأسطوانية أو النحت البارز في الجداريات السومرية والبابلية والآشورية أو في التماثيل المجسمة الضخمة كالثيران المجنحة في بلاد آشور ، إضافة للتماثيل السومرية الثمينة والفريدة بجمالها كتمثال الكبش الذهبي المعروض في المتحف البريطاني والذي عُثِر عليه في حفريات مدينة أور ويجسد كبشاً فتياً مصنوعاً من الذهب الصافي وحجر اللازورد يقف على قائمتيه الخلفيتين ويستند بقائمتيه الأماميتين على شجيرة ذهبية تحمل زهور الأقحوان المعتمدة في فنون وزخارف الحضارات الرافدينية ليتكرر ظهورها عبر الأزمنة ، ثم لتحتل مكانتها بين زخارف بساط السماوة . 

تميزت الفنون الرافدينية المبهرة باعتمادها النسبة الذهبية أو المقطع الذهبي في قياساتها وهو المفهوم الذي يحقق القوة والجمال في الأعمال الفنية الخالدة ومعظم نتاج الطبيعة . كشف الفيلسوف والرياضياتي اليوناني فيثاغورس عن مفهوم النسبة الذهبية بعد بحوث مستفيضة على النباتات والزهور والأعمال الفنية وشواهد العمارة، كما أشار إلى الأمر ذاته ابن سينا وجسّده رسماً ليوناردو دافنشي وبحث فيه فلاسفةٌ وعلماء في مقدمتهم عالم الرياضيات الايطالي ( ليوناردو فيبوناتشي ) الذي كشف في متتاليته العددية المشهورة عن علاقة التراكيب الجمالية الهندسية في زهرة عباد الشمس والأشكال الحلزونية للقواقع وغيرها بفكرة المقطع الذهبي وقياساته في الطبيعة وهو ما يؤسس لتقبل الإنسان وانفعاله بالجمال والتناسق وابتهاجه النفسي بالأعمال الفنية والتشكلات الطبيعية .

تناول الناقد التشكيلي العراقي الدكتور نزار الراوي في دراسة له نشرها في العدد الرابع من مجلة ( هلا الثقافية ) المعنية بالتنوير وجماليات المكان العراقي والفنون الرافدينية تجليات النسبة الذهبية والمقطع الذهبي في تصاميم البُسط والمنسوجات اليدوية العراقية ومنها إزار السماوة وبساط السماوة الذي يعاد إحياؤه اليوم بجهود نساء مثابرات في مشغل ( أم محمد ) ، وأشار إلى وعي الحرفيين والنساجين والنساجات في جهات العراق كلها بأهمية مفهوم التناسق القائم على النسبة الذهبية عن طريق خبرة متوارثة نادراً ما يتخلون عنها في تصاميمهم ، وهم يمتلكون الإحساس البدهي بالتناغم بين زخارف المنسوجات وحجومها عبر استخدام المقطع الذهبي الذي يطبقونه تلقائياً بلا تنظير أوقدرة على التفسير لإدراكهم القيم الجمالية بطريقة عفوية في التصميم العام للأبسطة وفهمهم لعلاقات الوحدات الزخرفية وتناغمها مع الألوان الساطعة.

تقوم النساجات السماويات في مشغل أم محمد بإحياء تراث النساجات السومريات فيستخدمن ألواناً بهيجة ونقوشاً تمثل البيئة الطبيعية من أزاهير وطيور ونخيل وشجر ليثبتن بهذا أنهن يدركن أسرار الجمال ويفهمن علاقته بالحياة والناس أكثر بكثير من فنانين يملأون الساحة الفنية بأعمال مشوشة تفتقر للتناغم ولايعنيها التواصل مع الموروث الرافديني . 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

عمليات بغداد تغلق 208 كور صهر و118 معمل طابوق وإسفلت

أسعار الصرف اليوم: 143 ألف دينار لكل 100 دولار

ترامب: أوقفتُ 8 حروب وأعدتُ "السلام" للشرق الأوسط

الأنواء الجوية: انتهاء حالة عدم الاستقرار وطقس صحو مع ارتفاع طفيف بالحرارة

حصار فنزويلا ينعش النفط… برنت وغرب تكساس يقفزان في آسيا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram