ستار كاووش
أستميح أستاذنا الخالد تشارلز ديكينز عذراً، لأني استعرت هنا اسم روايته (قصة مدينتين)، لكني سأوضح لكم الأمر، فالبارحة غيرت طريقي بشكل مفاجئ، وبدلاً من الذهاب بإتجاه الحدائق الواسعة التي تمتد خلف المرسم كما أفعل عادة أثناء جولتي اليومية، إتجهتُ لمركز المدينة، متطلعاً الى واجهات المطاعم والحانات المغلقة بسبب ظروف كورونا التي تجثم مثل كابوس على صدر العالم.
وهناك بجانب إحدى المقاهي التي كان عمالها منشغلين برص الكراسي فوق بعضها في الخارج، أثار انتباهي محل بواجهة ضيقة لكنه يمتد عميقاً في الداخل، وهو عبارة عن متجر لبيع الكتب، وقد إصطفت على جانبيه الضيقين أنواع من الكتب، بأشكال وألوان لا تعد ولا تحصى. دلفتُ الـى الداخل وتطلعت الى الكتب التي ملأت رائحتها المكان، حتى وقع نظري على كتاب بطبعة نادرة يضم التخطيطات الكاملة للفنان العظيم ريمبرانت، بما فيها أعمال الحفر والطباعة، تصفحته وتـأملت الرسومات، ولا أعرف السبب الذي دعاني لإعادته الى مكانه من جديد. ربما يعود ذلك الـى وجود خمسة عشر كتاباً لريمبرانت في مكتبتي تتضمن حياته وأعماله ودراسات عديدة إضافة للكثير من التفاصيل المتعلقة بصاحب (الحراسة الليلية)، ولم أَرَ داعياً لإضافة كتاب جديد.
وهكذا دَرَجتُ نحو البيت مع شعور يحاول أن يسحبني الى الوراء حيث الكتاب الرائع، وصرتُ كلما أمضي بخطواتي الى الأمام، يزداد شعوري بأني قد فقدت شيئاً ما خلفي، شيء ثمين وعزيز، فحاولتُ إشغال نفسي بالتفكير بلوحاتي الجديدة، لكن تخطيطات ريمبرانت كانت أقوى وأكثر جاذبية، مع ذلك تابعت طريقي كأي ولد عنيد لا يلوي على شيء. وهكذا قضيت يومي في المرسم كالعادة، وبعد أن حلَّ المساء عاودَ الكتاب مطاردته لخيالي مرة أخرى، فتناسيته بعض الوقت، حتى حلَّ الليل وذهبتُ الى الفراش، وإذا بالكتاب يطلُّ برأسه في ذهني من جديد، وبدأت التخطيطات تتحرك أمام عيني، وتخيلتُ أصابع ريمبرانت وهي تضع الخطوط والشخطات على الورق، فلم استطع النوم بشكل جيد، وظل هذا الكتاب يؤرق نومي.
في اليوم التالي نهضتُ من النوم ولا شيء يشغلني سوى كتاب ريمبرانت، وبدلاً من ذهابي الى المرسم مبكراً كالعادة، خرجتُ مسرعاً نحو مركز المدينة، وهناك انتبهتُ الى أني كنت مبكراً أكثر من اللازم، ومحلات المدينة لم تفتح أبوابها بعد. اخذتُ مكاني على أحد الكراسي الخارجية للمقهى المجاورة شبه المهجورة، وتابعت صور لوحاتي الأخيرة التي صورتها بالتلفون وفكرت ببعض التعديلات هنا وهناك، حتى أطَلَّتْ صاحبة المتجر، التي لمحتها تفتح الباب وتتجه نحو ماكنة تحضير القهوة، فأسرعتُ الى الداخل، وحييتها ثم مضيتُ نحو هدفي لا ألوي على شيء، وما إن وصلتُ الى (ريمبرانت) تنفستُ الصعداء وأنا أمسكه كما يمسكُ الكنز، وهو فعلاً كنز حقيقي بالنسبة لي. انتبهتْ المرأة لاندفاعي نحو هدفي المحدد، وما إن لاحظتْ الكتاب قالت بفطنة (لقد رأيتك تتصفحه البارحة) ثم أردفت (هل يعجبك ريمبرانت؟) فأجبتها بأني لم استطع النوم منذ تركته خلفي هنا يوم أمس، لذا عدتُ الآن لأصحبه معي، وسيكون مبتهجاً بين مجموعة كتبه التي لديَّ. ولم تكد المرأة تكمل إحضار قهوتها، حتى صرت في الشارع أحمل هذا الكتاب الجميل معي. وفي المرسم وضعته على الطاولة واحضرت القهوة وأنا أتابع الرسوم السود الداكنة التي تماهت مع لون القهوة المعتم. سرتُ مع الخطوط والتقنيات والشخصيات التي طارت بي نحو أمستردام القرن السابع عشر حيث بيت ريمبرانت الذي مازال حتى هذه اللحظة على هيئته، وكنتُ قد زرته عدة مرّات، وهناك تحسستُ بأصابعي الغرفة الجانبية لمرسمه والتي نَفَّذَ فيها الكثير من هذه الرسومات وأعمال الليثوغراف التي يضمها الكتاب.
وضعت الكتاب جانباً وتذكرت أول كتاب فني اشتريته في صباي ببغداد عن طريق المصادفة، وكان أيضاً حول ريمبرانت، وها هو آخر كتاب اشتريه يحمل بين طياته أعمال ريمبرانت أيضاً. كتابان يفصل بينهما أكثر من أربعين عاماً، لكنهما منحاني ذات الذهول والدهشة في حضرة أستاذ الرسم وأعظم فنان أنجبته هولندا وربما كل العالم.