عدوية الهلالي
لأكثر من قرنين من الزمن ، ظل مشهد بيع بطلة رواية البؤساء الشهيرة لشعرها وأسنانها لغرض الإنفاق على طفلتها أو مشهد سرقة بطل الرواية لرغيف من الخبز يدفع لقاءه سنوات من عمره في السجن يُبكيان القرّاء في مختلف أنحاء العالم ويذكرانهم بأن الفقر وراء كل أنواع الجرائم بل هو أسوأ أنواع العنف كما قال غاندي ..
ولكن ، أن يصل الحال بأبناء العراق الثري بنفطه وثرواته أن يبيعوا كل شيء ابتداءً من أعضائهم وحتى أولادهم فهو أمر يبكي العين والقلب ويستفز جميع الحواس..هل تصدقون مثلا أن يجعل عراقي من أسنانه وسيلة إيضاح لطلبة طب الاسنان فيبيعها لهم بالتدريج ليتدربوا على قلع الأسنان ، أو أن ترمي أمٌّ أولادها في النهر أو يحرق أب أولاده والسبب دائماً هو الفقر ! هل هنالك مشاهد أكثر إيلاماً وبشاعة وواقعية من تلك المشاهد ؟
يقول كونفوشيوس إن الفقر في أي بلد ليس عاراً لو كانت حكومة ذلك البلد فاضلة ، لكنه العار ذاته في ظل حكومة سيئة لاتقدم أدنى جهد لانتشال ابنائه من المستقبل المظلم الذي تقودهم إليه ظروفهم الجديدة.فما بين بطالة تنتشر في مفاصل البلد كالمرض الخبيث ، وجهل أفرزته سنوات الحروب والتهجير والنزوح وعنف نما في النفوس كالأشواك ليجعل من القتل والسحل والغدر أفعالاً يومية لاترقى الى مستوى الأحداث الغريبة أو المفجعة لأن مارأيناه وشهدناه في العراق أكبر من الغرابة والفجيعة ..إنه بلوغ مرحلة ( عدم الاحساس) التي يصبح فيها كل حدث غريب فعلاً طبيعياً لايستحق منا أكثر من سُويعات من الاهتمام وبعدها ننساه لننشغل بأحداث حياتنا الخاصة فهي لاتقل غرابة وفجيعة أحياناً عما نسمعه أو نراه ..أولسنا عراقيين ؟..نحن مشمولون إذن بعرض كل ماهو جديد وحصري على العالم الذي يتفرج علينا باستمتاع أو شماتة لأننا البلد الذي فشل في إيجاد بديل لويلات زمن الديكتاتورية ، وربما يشفق علينا من سوء أفعالنا التي قادتنا الى ماوصلنا اليه على الرغم من أن الفقر ليس تكفيراً لخطايا ارتكبناها في الماضي بل نتيجة نظام سياسي ومجتمعي يعتمد على الاستغلال ، وهل هنالك نظام سياسي أسوأ من الأنظمة التي ظهرت في العراق لتمتص رحيق خيراته وتحيله عليلاً هزيلاً وتجعل نظامه المجتمعي من أسوأ الأنظمة أيضاً لأن الأخلاق فيه بدأت تتآكل بسبب الفقر فتصبح الجرائم وتعاطي المخدرات والفساد بكل أنواعه أفعالاً عادية يمكن أن تستغلها القنوات الفضائية ليوم أو يومين لتحقيق نسب مشاهدة عالية ، ثم تركُنها في الأرشيف لتنشغل بغيرها ، فالأخبار كثيرة والحوادث متنوعة ودسمة والفقر شاخص بيننا ولن يقضي عليه بالتأكيد تخصيص يوم عالمي للقضاء عليه أو تعيين مجموعة من المتظاهرين العاطلين عن العمل أو توزيع رواتب للموظفين بعد صبر طويل وخشية الموظفين من إنفاقها فقد تكون الرواتب الأخيرة ، مايعني أن الحياة الاقتصادية ستظل راكدة وأصحاب المصالح البسيطة لايجدون من يشتري منهم ، وبالتالي فقد يقودهم الفقر ومطالب عوائلهم الى قتل أولادهم أو بيعهم ..وفي أحسن الأحوال بيع أعضائهم أو التوسل للمسؤولين أن يمنحوهم حقوقهم بعد أن رفعوهم على مقاعد السلطة وصار من واجبهم أن يقوموا بخدمة الشعب ..لكنهم يُمعِنون في إذلاله مستخدمين سياسية التدجين التي تجعل الفرد يتقبل كل شيء ويصبح كل مايمر به من عذاب ومعاناة ..أمراً طبيعياً ..وحدثاً يستحق الفرجة ..ثم الإهمال !!