TOP

جريدة المدى > عام > رسالة الأديان واحدة إذا ما فهمناها جيداً إذا ما فهمنا جوهرها العميق

رسالة الأديان واحدة إذا ما فهمناها جيداً إذا ما فهمنا جوهرها العميق

نشر في: 24 أكتوبر, 2020: 05:54 م

هاشم صالح

ظاهرياً الأديان مختلفة اختلافاً كبيراً بل ومتناقضة ومتصارعة. فهذا يصلي إلى الشرق وذاك إلى الغرب.

هذا يركع ويسجد وذاك يظل واقفاً في كنيسته لا يركع ولا يسجد، هذا يؤمن بعقائد لاهوتية تختلف كلياً عن عقائد الأديان الأخرى الخ.. كل هذا صحيح . ولكن هناك نواة أخلاقية مشتركة تجمع بين مختلف الأديان الكبرى، وهو ما سنوضحه أكثـر لاحقاً.

والآن بداية اسمحوا لي بخصوص مفهوم التسامح أنْ أقول ما يلي: علينا أنْ نذهب اليوم إلى أبعد ممّا ذهبت إليه فلسفة الأنوار في هذا المجال، إذ لا ينبغي علينا فقط أنْ «نسمح» أو «نتسامح» مع أتباع الدّين المُختلف أو المذهب المُختلف، هذا لم يعد يكفي، ولم يعد يكفينا فقط أنْ نتحمَّل وجود الاختلاف الديني الاعتقادي في المجتمع كما كان يفعل فلاسفة الأنوار سابقاً، ولهم الشكر الجزيل بطبيعة الحال، لا ريب في أنّ موقفهم كان تقدّميّاً جدّاً ورائعاً بالنسبة إلى ذلك الزمان قبل مائتَي سنة؛ ولكنّه لم يعُد كافياً بالنسبة إلينا اليوم. علينا اليوم أنْ نعترف بأنّ هناك حقيقةً ما خارج نِطاق عقيدتنا أو ديننا أو مَذهبنا. ينبغي أنْ نعترف بأنّ ديننا الخاصّ، أو مذهبنا، لا يمتلك وحده كلّ الحقيقة الإلهيّة للدّين . وهذا شيء يصعب علينا جدّاً أنْ نقرّ به، ولكن ينبغي أنْ نتعوَّد عليه . عليَّ أنْ أعترف بأنّ الآخرين لهم علاقة بجانبٍ آخر من الحقيقة غير الذي أعرفه أنا . ينبغي أنْ أعترف بأنّ رمزانيّتي الدينيّة لا تستنفد كلّ أبعاد ترميز المقدَّس الأعلى الأساسي، بمعنى آخر: فإنّ ديني، على عظمته، لا يستنفد كلّ أبعاد المُطلَق الإلهي، على عكس ما أتوهَّم. الآخرون أيضاً يُعبّرون عن جوانب أخرى من هذا المُطلَق الإلهي أو الرمز الأساسي غير تلك التي أعرفها. من هنا غنى الأديان وتنوعها أو قل غناها من خلال تعدديتها وتنوعها. لا ينبغي أنْ نخشى من الاختلاف والتنوع. اختلاف أمتي رحمة! 

على هذا الأساس تتكامل الأديان ولا تتعارَض أو تتصارع، كلّ واحد منها يعبِّر عن جانبٍ من جوانب الحقيقة الإلهيّة المُطلَقة. على هذه الأرضيّة يتكامل الإسلام مع المسيحيّة. يُضاف إلى ذلك أنّ جميع الأديان الكبرى تتلاقى على نواة أخلاقيّة مُشترَكة: لا تقتل، لا تسرق، لا تكذب... إلخ. وبالتالي، فعلى الرّغم من اختلاف الطقوس والشعائر، بل وحتّى العقائد، من دينٍ إلى آخر، فإنها جميعاً تدعو إلى مَكارِم الأخلاق . وهذا لا ينطبق على أديان التوحيد كالمسيحيّة واليهوديّة والإسلام فقط، وإنّما ينطبق أيضاً على أديان الشرق الأقصى كالبوذيّة والهندوسيّة... إلخ. لا يوجد دينٌ واحد يدعو إلى الرذيلة والفاحشة والعدوان والقتل والسرقة والكذب... إلخ. مستحيل! وبالتالي فالأديان يُمكن أنْ تتلاقى على هذه الأرضيّة، وينبغي أنْ تتلاقى وإلّا فالحرب العالَميّة المُدمِّرة! ولهذا السبب طرحَ العالم اللّاهوتي السويسري الشهير هانز كونغ شعاره الرائع: لا سلام في العالَم من دون سلام بين الأديان. ولكن لا سلام بين الأديان إلّا بعد أنْ يعترف كلّ دين بمشروعيّة الأديان الأخرى في الوجود. وهذا ما فعلته الكنيسة المسيحيّة إبّان انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني في العام 1965 كما ذكرنا آنفاً. فقد تخلَّت لأوّل مرّة عن لاهوت التكفير وتبنَّت لاهوت التنوير، في الماضي، وعلى مدار أكثر من ألف سنة، كانت الكنيسة تردِّد الفتوى التالية: «خارج الكنيسة الكاثوليكيّة البابويّة الرومانيّة المقدَّسة لا مرضاة عند الله ولا نجاة في الدار الآخرة»، وهذا يعني تكفيراً ليس للمُسلمين واليهود وسواهم من باقي الأديان فقط، وإنّما يعني أيضاً تكفيراً للمَذاهب المسيحيّة الأخرى، وبخاصّة البروتستانتيين. 

أمّا بعد ذلك المجمع الكَنسيّ التحريريّ الكبير، فقد اعترفت الكنيسة الكاثوليكيّة بإيمان جميع الأديان، بل وحتّى بإيمان المُسلمين، العدو اللّدود على مَدار التاريخ! وكانت تلك ثورة لاهوتيّة لا تقدَّر بثمن، على سبيل المُقارَنة، ينبغي العِلم بأنّ الإسلام يحتوي أيضاً على مقولات مُماثِلة لمقولة الكنيسة الكاثوليكية: «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالِحاً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هُم يحزنون» (البقرة، 62). الذين آمنوا: يعني المسلمين، والذين هادوا اليهود، والنصارى المسيحيّين، والصابئة عبدة الكواكب.. كلّهم تعترف الآية بهم وبإيمانهم بشرط أنْ يعملوا صالِحاً. يُمكن للتنويريّين العرب أنْ يعتمدوا على هذه الآية مُستقبلاً لمواجهة الظلاميين ثم لتحقيق المُصالَحة التاريخيّة بين الإسلام والحداثة. كما ويُمكنهم الاعتماد عليها، وعلى سواها، من أجل الخروج من لاهوت التكفير الذي يوشك أنْ يُدمِّر العرب والمُسلمين حاليّاً بعد إدخالهم في حروبٍ أهليّة طاحنة لا تُبقي ولا تذر. 

في عصر الحداثة: لأول مرة تدخل الحقيقة الدينية في أزمة مع ذاتها. وهذا ما لم يعرفه عالم الإسلام بعد. ولكنه سيعرفه عما قريب.. 

يمكن القول بشكل من الأشكال إن التعصُّب الديني ظلَّ سائداً في الغرب طيلة العصور الوسطى وحتّى مَشارف العصور الحديثة. ولم يبتدئ بالتراجُع إلّا بعدما دخلت أوروبا فيما يدعوه العُلماء بأزمة الحقيقة الدينيّة مع ذاتها. ففي لحظةٍ من اللّحظات، راح بعضهم يتساءل: يا ترى لو أنّي وُلدت في دينٍ آخر، أما كنتُ سأحبّه وأتعلّق به مثلما أحبُّ ديني الآن وأتعلّق به؟ لو أنّي وُلدتُ في مذهب آخر، أما كنتُ سأعتقد أنّه هو وحده الصحّ المُطلَق والمذهب الآخر ضلالٌ في ضلال؟ أما كنت سأحقد على أتباعه؟ على هذا النحو راح الفكر الأوروبي يضع مفهوم الحقيقة الدينيّة على محكّ المُراجَعة النقديّة القاسية. فنحن نعتقد أنّ ديننا أو مَذهبنا يمثِّل وحده الحقيقة الإلهيّة المُطلَقة. إنّه يستنفدها كليّاً. ونستغرب كيف يمكن أنْ يوجد دين آخر أو مذهب آخر؟ ولكنْ لو أنّنا وُلدنا في دينٍ آخر أو مَذهبٍ آخر لاعتقدنا الشيء نفسه. على هذا النحو راح فلاسفة التنوير يستنتجون أنّ مفهوم الحقيقة نسبيّ وليس مُطلقاً. ولهذا السبب يقول ميشيل أونفري على لسان مونتيني : «كلامه يعني أنّه (أي مونتيني) لو وُلِد في فارس ما قبل الإسلام لكان زرادشتيّاً. ولو أنّه وُلِد في الجزيرة العربيّة لكان مُسلماً». ونضيف: ولو أنّه وُلِد في الهند، لكان هندوسيّاً أو بوذيّاً، وفي الصين طاويّاً أو كونفوشيوسيّاً... إلخ. ولكنّه وُلِد في فرنسا، وبالتالي فهو مسيحي كاثوليكي لأن أغلبية الشعب هكذا. هذه هي القصّة بكلّ بساطة. وبعده قال مونتسكيو هذه العبارة الشهيرة: «أنا إنسان بالضرورة ولستُ فرنسيّاً إلّا بالمُصادَفة». بمعنى أنّه لو وُلِد في اليابان لكان يابانيّاً، ولو وُلِد في اسطنبول لكان تركيّاً... إلخ. وبالتالي فلْنُخفِّف من عنجهيّتنا القوميّة وغلوائنا. ولْنُخفِّف أيضاً من عنجهيّتنا الطائفيّة وتعصبنا! وعلى هذا النحو نستخلص أنّ المَجازر الطائفيّة التي حصلت بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا كانت ناتِجة عن توهُّم كلّ طَرَف بامتلاك الحقيقة الإلهيّة المُطلَقة للمسيحيّة، وأنّ الآخر فاسِق، وكافِر، وزنديق، وخارِج على المسيحيّة الحقة. ولهذا السبب شنَّ فلاسفةُ الأنوار حملةً شعواء على التعصّب الديني، وعلى فتاوى التكفير اللّاهوتيّة الكهنوتيّة التي تؤدّي مُباشرةً إلى القتل والذبح والمجازر. وكان في طليعتهم فولتير بطبيعة الحال. وراح فلاسفة التنوير يطرحون أسئلة من النوع التالي: بأيّ حقٍّ أُكفِّر شخصاً آخر لمجرّد أنّه لا ينتمي إلى ديني أو مذهبي؟ إذا كان هذا الشخص طيّباً وخيِّراً يفيد الآخرين ويخلص في تأدية واجبه وخدمة المجتمع، أليس هو أفضل من شخص آخر ينتمي إلى ديني ومذهبي ولكنّه رديء وشرّير؟ أليس الدّين هو المُعامَلة في نهاية المَطاف كما يقول سبينوزا؟ على هذا النحو راحوا يخرجون تدريجيّاً من غياهب القرون الوسطى، حيث سادت الفتاوى التكفيريّة والتمييز بين الناس على أساس الدّين والمَذهب. وعلى هذا النحو راحت أوروبا تتجاوز انقساماتها المذهبيّة وتعصبها الديني وتسير على طريق الاستنارة والتقدُّم. 

لا يمكن أنْ ينبثق الإنسان العربي الحديث

إلا على أنقاض الإنسان الأصولي الطائفي القديم

نقصد بذلك ما يلي: التفكيك أولاً وبعدئذ التركيب. قد تبدو هذه العبارة قاسية، بل ومُرعبة بعض الشيء، لكنْ ثمّة مُبرّرات لها. لنتَّفق على الأمور منذ البداية: نحن جميعاً مدعوّون للاشتغال على أنفسنا، لتغيير أنفسنا بأنفسنا. «لا يغيّر الله ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم». كلّنا وُلدنا في أديانٍ معيّنة أو حتّى في مَذاهب محدَّدة داخل هذه الأديان. وكلّنا تشرَّبنا مع حليب الطفولة حبّ ديننا ومَذهبنا وطائفتنا. وربّما تشربّنا أيضاً كره الطوائف الأخرى أو الحذر منها على الأقلّ أو عدم الثقة بها. وهذا ما يُسبِّب المُشكلات والحروب الأهلية المُدمّرة، ويعرقل بالتالي الوحدة الوطنية للبلاد. وبالتالي ما الحلّ؟ هل هو في أنْ نبقى على ما نحن عليه أم في البدء بتغيير أفكارنا أو تعديلها على الأقلّ؟ أصعب شيء هو اشتغال الذّات على ذاتها لتغيير ذاتها من الداخل. أصعب شيء هو مُراجَعة طفولاتنا وعصبيّاتنا الدفينة. ذلك أنّ العِلم في الصغر كالنقش في الحجر. وهذا يعني أنّنا سوف نشتبك مع أنفسنا في معركة ضارية لا تبقي ولاتذر. وهي أصعب مَعركة: إنّها المعركة الحاسِمة للذّات ضدّ الذّات! ولكنْ ينتج عنها الخير العميم، وبناءً على نتيجتها، سوف ينبثق إنسانٌ عربيّ جديد وعقليّة جديدة، ماذا يعني ذلك كلّه؟ إنّه يعني أنّ الإنسان العربي الجديد سوف ينهض على أنقاض ذاته بعد مخاض عسير، لتوضيح هذه الفكرة أكثر سوف أستشهد بمؤسِّس الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت، كان ديكارت يقول حرفيّاً: "منذ بعض الوقت رحتُ أشعر بأنّي كنتُ قد تلقّيتُ في سنوات عمري الأولى جملة من الأفكار والآراء الخاطئة على أساس أنّها صحيحة، ولذلك قرّرتُ التخلُّص من هذه الأفكار وبدء كلّ شيء من جديد، أي من الأساس (نحن نقول الآن: من نقطة الصفر). ولكنّني لم أتجرَّأ على تنفيذ هذا المشروع فوراً، نظراً إلى ضخامته وخطورته؛ فقد انتظرتُ حتّى كبرت ونضجت، وما عدتُ أحلم بنضْجٍ آخر أكبر لتنفيذه. ولهذا السبب قرّرتُ بكلّ حريّة وطمأنينة أنْ أدمِّرَ كلّ أفكاري السابقة". 

لاحِظوا هذه الكلمة الخطيرة التي يَستخدمها: تدمير! نحن نَستخدِم كلمة أقلّ وطأة منها (تفكيك)، ومع ذلك نخشى أنْ نُتَّهم بتدمير التراث! على أيّ حال ماذا نَستنتج من كلام ديكارت الجوهريّ هذا؟ نستنتج ما يلي: أنّ الإنسان العربي الجديد لن يولَد إلّا بعد التخلُّص من أفكاره الطائفيّة والمذهبيّة السابقة التي تربّى عليها ورضعها مع حليب الطفولة، سواء في البيت أم المدرسة أم الكنيسة أم الجامع... إلخ. ولهذا السبب قلتُ إنّ الإنسان العربيّ الجديد سوف يولَد على أنقاضِ الإنسان العربي القديم. 

شروط اندلاع الثورة التنويرية الكبرى في العالم العربي

لتوضيح الفكرة أكثر فأكثر، سوف أضيف ما يلي: الإنسان العربيّ الجديد لن ينبثق ولن يولَد قبل أن ينتقل العالَم العربي والإسلامي كلّه من الباراديغم اللّاهوتي للعصور الوسطى إلى الباراديغم اللّاهوتي للعصور الحديثة. لن تتغيَّر الأمور فعلاً في سوريا والعراق ولبنان والمَغرب والمَشرق إلّاعندما ينتصر التأويل العقلاني الحديث للدّين الإسلامي على التأويل القديم الموروث منذ مئات السنين. وهو تأويل راسِخ في العقليّات الجماعيّة رسوخ الجبال، من هنا صعوبة التغيير في العالَم العربي حاليّاً، وهو على أيّ حال لن يتم إلّا على مَراحل مُتتالية وسوف يَستغرق أجيالاً عدّة، وبالتالي فجيلنا نحن ليس إلّا وقوداً يَحترق، نحن حطب التاريخ العربي المُشتعِل، نحن جسر الانتقال أو العبور من عصر إلى عصر، ومن كون إلى كون. وعلى أنقاضنا سوف يولَد الإنسان العربيّ الجديد. انظروا المآسي والفواجع الحاصلة حاليّاً في كلّ أنحاء العالَم العربي والإسلامي، أجيال بأسرها تَحترق وشباب في عمر الورود يتساقطون.. 

كنتُ قد ذكرتُ آنفاً اسم عالِم اللّاهوت السويسري هانز كونغ، وأودّ هنا الإشادة بمؤلّفاته الضخمة التي استفدتُ منها كثيراً وعاشرتها طويلاً على مَدار العشرين سنة الماضية. ومعلوم أنّه جدَّد اللّاهوت المسيحي بشكلٍ رائع ومُدهِش. بل وطبَّق عليه نظريّة العالِم الأميركي توماس كهن الخاصّة بالثورات العِلميّة أو القطيعات الإبستمولوجيّة في تاريخ العلوم الفيزيائيّة والطبيعيّة. وهذا شيء مُدهش جدّاً، لأنّ عُلماء الدّين لا يطَّلعون عادةً على النظريّات الإبستمولوجيّة، أو على ما ندعوه بفلسفة العلوم. إنّهم أبعد ما يكونون عنها ولا يكادون يفقهون فيها شيئاً أو حتّى يهتمّون بها مجرّد اهتمام، فهناك بونٌ شاسِع بين مجال عِلم اللّاهوت، ومَجال فلسفة العلوم أو ما يُدعى باللّغات الأجنبيّة بالإبستمولوجيا، ولكنّ هانز كونغ، كما قلنا، يفتح عينَيه على كلّ شيء، على كلّ مجالات المَعرفة، إنّه يطَّلع على العلوم والفلسفات كلها وليس على العلوم الدينيّة فحسب، وليتنا نمتلك عالِماً واحداً مثله في الجهة الإسلاميّة، هيهات! في الواقع هو نِتاج التاريخ الأوروبي الذي ما انفكّ يُقارِع بين العِلم والإيمان أو بين الدّين والفلسفة منذ أربعة قرون وحتّى اليوم، وقد نتجَ عن هذه المُقارَعة الخير الكثير بالنسبة إلى العلوم الدينيّة، فقد استنارت وانفتحت وتعمَّقت إلى حدٍّ كبير، وعندئذ توصَّلوا إلى عِلمٍ جديد هو: فلسفة الدّين، لقد أَجبرت هذه المُقارَعةُ الجدليّة الخصبة رجالَ الدّين المسيحيّين في أوروبا على توسيع آفاقهم العقليّة ومنظوراتهم الفكريّة وتجديد فَهْمهم للنصوص الدينيّة التأسيسيّة، وهذا ما لم يحصل حتّى الآن في الجهة الإسلاميّة، عربيّة كانت أم غير عربيّة، وحدها المسيحيّة الأوروبيّة استفادَت حتّى الآن من الاكتشافات المُذهلة للعِلم الحديث وكذلك الفتوحات الكبرى للفلسفة. فقد أجبرها تقدُّم العِلم على الخروج من قوقعتها (أي أصوليّتها) وتوليد لاهوتٍ تحرّري تنويري يتناسَب مع روح العصور الحديثة. وعلى هذا النحو تخلَّت تدريجيّاً عن العقليّة التكفيريّة الظلاميّة للقرون الوسطى، وتبنَّت التأويل العقلاني والروحاني العظيم لجوهر الرسالة الدينيّة. على هذا النحو تمكَّنت من إقامة المُصالَحة التاريخيّة بين المسيحيّة والحداثة بعد طول خصامٍ وعراك. 

كيفية الانتقال من النموذج الديني القروسطي إلى النموذج الديني الحديث (أو الباراديغم الأعظم في اللغات الأوروبية)

نقصد بذلك أنه آن الأوان للانتقال من عقلية القرون الوسطى المتعصبة طائفياً ومذهبياً إلى عقلية العصور الحديثة المتسامحة التي لا تفرق بين الناس على أساس الطائفة أو المذهب. الأولى خاضعة للشريعة القديمة بكل فقهها وفتاواها، والثانية خاضعة للفلسفة السياسية التنويرية الحديثة: أي لشريعة حقوق الإنسان والمواطن. وشتان ما بينهما! إن بحر الدم الجاري حالياً في المشرق العربي ناتج في قسم كبير منه عن صعوبة عملية الانتقال هذه ومخاضها العسير. هناك فرق كبير بين تدين العصور الوسطى وتدين العصور الحديثة أو لا تدينها، هناك فرق بين العبودية والحرية! ولا يعرف معنى الحرية إلا من كسر القوقعة وخرج من الأقفاص الطائفية والمذهبية الإخونجية - الداعشية التي تسيل الآن أنهاراً من الدم في سوريا والعراق والمشرق العربي عموماً. 

على أي حال كنا قد قلنا آنفاً إن هانز كونغ طبَّق نظريّة العالِم الأميركي توماس كهن على تاريخ اللّاهوت المسيحي. لكنْ ما هي هذه النظريّة؟ لنقُلْ باختصارٍ شديد ما يلي: إنّها تتمحور حول مصطلحٍ واحد يُدعى النموذج العِلمي الأعلى السائد في حقبةٍ ما من حقَب التاريخ، والمُسيطِر على كليّة المَعرِفة إبّان تلك الحقبة قبل أن ينهار لاحقاً في فترة أخرى لكي يحلّ محله نموذجٌ أعلى جديد للمَعرِفة، وهكذا دواليك.. وهذا ما يُدعى في اللّغات الأجنبيّة بالباراديغم. فالنظريّة الأرسطوطاليسيّة - البطليموسيّة مثلاً، سيطرَت على البشريّة طيلة ألفَي سنة بصفتها النموذج العِلمي الأعلى للمَعرِفة. لقد كانت تُمثِّل النظريّة المُطلَقة عن الكون. وكانت تعتقد أنّ الأرض هي مَركز الكَون، وأنّ الشمس هي التي تدور حولها.. وليس العكس. وبعدئذ انهارت هذه النظريّة الجبّارة، التي كانت تُشكِّل الحقيقة المُطلقَة بالنسبة إلى العصور الوسطى المسيحيّة، كما الإسلاميّة. وحلَّت محلّها النظريّة العِلميّة الحديثة التي أسَّسها كوبرنيكوس وغاليليو وديكارت ونيوتن. وعندئذ انتقلنا من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس. 

وهكذا حلَّت نظريّة جديدة محلّ نظريّة قديمة، أو قلْ حلَّ باراديغمٌ جديد محلّ باراديغم قديم. وعلى غرار ذلك، يُقسّم هانز كونغ تاريخ اللّاهوت المسيحي إلى أربعة أقسام أو باراديغمات: فهناك أوّلاً الباراديغم اللّاهوتي للقرون الوسطى ، ثمّ تلاه في القرن السادس عشر الباراديغم اللّاهوتي للوثر والإصلاح الديني، ثمّ تلاه في القرنَين السابع عشر والثامن عشر لاهوت التنوير على يد سبينوزا وفولتير وروسّو وكانط... إلخ؛ ثمّ تلاه في القرنَين التاسع عشر والعشرين لاهوت المسيحيّة اللّيبراليّة التنويريّة أيضاً. وعموماً، يُشكِّل ذلك كلّه لاهوت الحداثة. والآن ينبثق لاهوتٌ جديد أمام أعيننا هو لاهوت ما بعد الحداثة. هذا في حين أنّ العالَم الإسلامي لا يزال غارِقاً في لاهوت القرون الوسطى! هكذا نلمس لمْس اليد حجْم الهوّة السحيقة التي تفصل بين العالَم الأوروبي والعالَم العربي. فنحن لسنا مُتخلّفين عِلميّاً وتكنولوجيّاً فقط، وإنّما دينيّاً ولاهوتيّاً أيضاً! أعرف أنّني سوف أصدم الكثيرين بهذا الكلام، ولكنّها الحقيقة. 

يقول هذا العالَم الفذّ والكاهن المؤمِن الكبير ما معناه: أُفق عِلم اللّاهوت ينبغي أنْ يكون العالَم الحيّ المعاش لأناس اليوم. إنّه عالَم حديثٌ مكوَّن من العلوم والتكنولوجيا ومن العقل النقدي المُستنير أيضاً. ولكنّه أيضاً عالَم ما بعد الحداثة، أي العالَم الذي نقدَ الحداثة وتجاوَزها بعدما كشفَ عن خَيباتها وفشَلها من دون أنْ يهمل إنجازاتها الكبرى. ففلاسفة الحداثة من أمثال فويرباخ ونيتشه وماركس وفرويد اعتقدوا أنّهم قضوا على الدّين قضاءً مُبرماً وأحلّوا محلّه الإلحاد المادّي المُطلَق؛ فإذا بعالَم ما بعد الحداثة يُعيد للدين اعتباره ويكشف عن خَيبة الإلحاد وخوائه وعدميّته وقصر نظره. وهذا يعني أنّنا وصلنا الآن إلى تخوم مرحلة متقدّمة جدّاً: إنّها مرحلة الفهْم الجديد كليّاً للدّين: أي فهْم ما بعد التنوير وما بعد الحداثة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram