طالب عبد العزيز
لم تتمكن فكرة تسوير المدن عبر التاريخ من صمودها وحمايتها، وكل قلاع الإمبراطوريات التي وقفت مانعاً بوجه الخصوم ذات يوم انهارت، وهذا سور الصين الذي استغرق بناؤه مئات السنين، كان قد اخترق عشرات المرات، ولعل صديقي الفضوي كان صادقاً في معتقده حين قال:
" ما سمّيَ السترُ ستراً إلا ليُهتك". ربما قامت فكرة الأسوار في بعض دواعيها للتطهير، وجعل المدن خالية من الغرباء، في تعميق لوحدانية العرق والمعتقد، وفي الفكرة هذه ما جعل من بعض المدن مغلقة، فاقدة للجذب السياحي، غير آمنة للغرباء، بما يجعل الحياة فيها قاسية، فالتضييق في غالب أحواله منفرٌ، طارد لأهل المدينة فضلاً عن زوارها.
تصلح الديباجة هذه لنتحدث عن فكرة الطهرانية أو الفضيلة عند منشيئِ المدن عبر التاريخ، والتي لا وجود لها في أفكارهم اليوم، ففي عقيدة البنّاء الحديث قد تتساوى أهمية المعبد والمبغى، فالفكرة تطورت كثيراً، وكل حاجة في عقيدته مقدسة، لا بدَّ من تأمينها، وهكذا،وجدنا العالم،منذ الاستعمار القديم الى اليوم،بل لم تأت الدولة العثمانية(الاسلامية) بما يتعارض مع الفكرة هذه، فهي التي بالغت في تعضيد بناء المساجد وتعظيم شانها في عموم أراضيها، لكنها لم تخرج عن القاعدة الأساسية في البناء فسمحت لحكومات المدن الكبيرة بتشييد دور اللهو والطرب بما فيها المباغي ومحال شرب الخمور.
بغض النظر عن الفساد والعلاقات المشبوهة عند الكهنة والبابوات في أوروبا القرون الوسطى، يمكننا الحديث عن نظرائهم في الدولة العربية الاسلامية منذ العهدين، الاموي والعباسي وانتهاءً بالعصر العثماني، وكتب التواريخ تحدثنا عن الكثير، ليبرز لنا السؤال التقليدي: إذا كان الخاصّة وأهل الرفعة على القدر هذا من السلوك، ترى ما الذي يحدث في قاع المدن تلك؟ وهل في ما هو كائن هناك ما يقلل من أهمية المدن والشخوص؟ نعتقدُ أنه من الحكمة التروّي قليلاً في الاجابة، فما شيّده هؤلاء(المنبوذون) في عقيدة البنّاء اليوم ما زال يحدثنا عن العظمة والفخامة والجمال والمنعة، ولا مقارنة منصفة بين ما بني في المدن الكبيرة مثل فيينا ولندن وباريس وروما وأثينا وغيرها قبل قرن ونصف وما شُيّد بعد ذلك، فالفارق كبيرٌ واضح.
ما يحدث في المدن العراقية بعد 2003 لا يرشدنا الى عقلية بنّاء حقيقي، فهي تلقي بلائمة إخفاقها في البناء والإعمار على البنى الهالكة، التي بناها الحكام السابقون، بل تقوم بتقويض ما كان قائماً، ودالة على معنى من معاني الجمال والأهمية، مثل بيوت الشناشيل في البصرة القديمة وبغداد والموصل بإهمالها وتركها بيد المتجاوزين من أنصار الحكومة، وهي تنشئ لشريحة مجتمعية من حيث تعلم او لا تعلم ما يُجبرها على الانحراف والسلوك الشاذ. لم تكن محلة "البتاويين" قبل سقوط النظام السابق على الحال من الرداءة هذه، ولو فحصنا قيعان المدن العراقية الأخرى بما فيها المقدسة لعثرنا على ما لا يمكن تصوره.
مفهوما الفضيلة والرذيلة لا يُحددان بسلوك مجموعة بشرية ما، وإذا كانت الفضيلة فطرة والرذيلة عارضاً يتوجب على الحكومة التفكير الجاد بوضع الحلول الممكنة، التي من بينها إعادة فكرة البناء في المدن الحديثة، واستعادة الامكنة القديمة بوصفها جذباً سياحياً، وعدم تركها بيد المتجاوزين لتتحول الى بؤر للرذيلة والفساد الاخلاقي، تباع الخمور سراً فيها، وتشترى الرغائب واللذائذ الجسدية علناً. ما يحدث في قاع المدينة خطير وخطير جداً. والخشية في اتساع رقعة ما يحدث، بعد أن تهدمت بالفقر والتشدد الديني والاجتماعي أسوار الوهم في النقاء والطهرانية.