د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
يمكن لعمارة "الجناح السويسري" Swiss Pavilion (1930 – 1932) <وهو مبنى القسم الداخلي للطلبة السويسريين في المدينة الجامعية في باريس>
أن تكون درساً تطبيقياً نافعاً في توضيح مرامي الحداثة المعمارية وتبيان أهدافها. ذلك لأن تلك "العمارة" المتفردة تفصح بجلاء ومن خلال هيئتها اللافتة عن غالبية المفاهيم الجديدة التي كان ينادي بها لو كوربوزيه (1887 - 1965) Le Corbusier مصمم المبنى، واحد رواد الحداثة ومؤسسسيها اللامعين. في عمارة هذا المبنى الضخم، يتخطى كوربوزيه مراحل التجريب العديدة التي رافقت نشوء مبادئ عمارة الحداثة، التي جسدتها سابقاً أمثلة تصميمية مبنية، كانت غالبيتها عبارة عن "دارات سكنية" ذات مقياس متواضع. وباكتمال تشييد "الجناح السويسري"، يكون المعمار قد استطاع إظهار قيم الحداثة المعمارية بصورة ملموسة، جاعلاّ اياها "تعمل" أمام أنظارنا في انتاج مبنى حداثي متعدد الطوابق وبمقاسات كبيرة.
يستدعي الحديث عن أهمية عمارة "الجناح السويسري"، ومكانتها البارزة في المشهد المعماري الحداثي العالمي، يستدعي ذلك، التعرف، ولو بعجالة، عن مسيرة لو كوربوزيه المعمارية التي لطالما كانت تثير مختلف الاراء المتباينة حولها وحول منتجها التصميمي. معلوم أن لو كوربوزيه لم يحظ باهتمام ورعاية كثير من المعماريين المحافظين، مثلما لم ينل اعتراف غالبية المعماريين الأكاديميين الذين وقفوا بصورة مكشوفة ضده شخصياً وضد طروحاته الفكرية. ولم تخلُ أية مناسبة تصميمية، تقريباً، من المناسبات التي يشترك لو كوربوزيه بها وفريقه المعماري من حدوث ضجة إعلامية حولها او افتعال إشانة سمعه للحط من قيمة التصميم والتشهير بالمصمم! ويعود سبب ذلك، في الدرجة الإولى، الى نوعية التحصيل المهني الخاص بالمعمار. معلوم أن لو كوربوزيه لم يدرس العمارة في مدارس أو معاهد مهنية متخصصة، وإنما استقى خبرته المعمارية عن طريق التعليم الذاتي ومن خلال ممارسة تطبيقية اكتسبها من العمل الدوؤب لدى خيرة المعماريين الطليعيين في العديد من الدول الأوروبية الذي عمل لو كوربوزيه في مكاتبهم الاستشارية.
عندما طُلب من لو كوربوزيه أن يصمم مبنى "الجناح السويسري" في موقع المدينة الجامعية بباريس، رفض القيام بذلك وأهمل الطلب، مستذكراً حادثة الإساءة الظالمة التي تعرض لها في مسابقة "قصر عصبة الأمم" في سنة 1927 بجنيف في وطنه الاصلي. إذ قررت لجنة التحكيم، وقتها، منح الجائزة الأولى لمشروعه في تلك المسابقة الدولية، ولكن عندما عرف أعضاء اللجنة لاحقاً بان صاحب المشروع الفائز هو "المتمرد" لو كوربوزيه ذاته، لجأوا، بغضاً به، الى أسلوب غيرمقبول وغير مهني اطلاقاً مدّعين بان المشروع منفذ بـ "حبر" غير "الحبر الصيني"..وبالتالي فانه يعارض شروط المسابقة،.. وقد أسقِط مشروعه بهذة الحجة! بيد أن إلحاح اصدقائه السويسريين وإعجابهم، لاحقاً، بطروحاته المعمارية وتبنيهم لها، وافق أخيراً أن يقوم بالتصميم بعد مفاوضات طويلة ومضنية. وتم أخيراً في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 1931 وضع الحجر الأساس وشرع في التنفيذ وفقاً لتصاميم لو كوربوزيه بالاشتراك مع ابن عمه "بيير جانييريه" (1896 - 1967) Pierre Jeanneret معاونه الدائم وأحد أعمدة مكتبه الاستشاري، الذي ساهم مع لو كوربوزيه في إعداد جميع التصاميم المهمة على امتداد عملهم المشترك لحين وفاتهما الاثنين.
اكتمل تنفيذ مبنى الجناح السويسري في سنة 1932، بيد أن "عمارته" التي لم "تسلم" من النقد الجارح، لاقت مباشرة عند ظهورها تبايناً كبيراً في الآراء، فمنهم (وهم أقلية) من أعجب بلغة المبنى الحداثية وغير المسبوقة، وآخرون (وكانوا غالبية) رأوا عكس ذلك، معربين عن سخطهم وعدم فهمهم لهذه "العمارة"، التي وجد ذلك "البعض" فيها نجاحاً تصميمياً للمعمار! ولم تحض عمارة المبنى بموافقة واضحة من قبل السلطات الرسمية السويسرية. وعندما تم تدشين حفلة افتتاحها في 7 تموز (يوليو) 1933، حضر ذلك الافتتاح رئيس الجمهورية الفرنسية، في حين غاب عنها، بتعمد، رئيس المجلس السويسري الفيدرالي! وقد كتب في حينها محرر جريدة "La Gazette de Lausanne" في 11 تموز 1933، (وهي أوسع الصحف وقتها في سويسرا)، منتقداً عمل لو كوربوزيه قائلاً " لقد وضع سويسرا في موقف حرج! إن عمله هذا يشبه <ماكنة سكناه> المثيرة للاشمئزاز (كناية لمقولة لو كوبوزيه المعروفة من أن <الشقة: ماكنة السكن>!)". في حين ذهب المعماري السويسري المقيم في جنيف المدعو "الكسندر فون زيغير" بعيداً في نقده للجناح بصورة ساخرة تنم عن شراسة لازعاج المعمار في كراسة أصدرها بعنوان "حصان طروادة البلشفي"! فرد عليه كوربوزيه قائلاً "الحصان هذا: هو.. أنا"! لكن الزمن اثبت بان ما اجترح يوماً ما في المدينة الجامعية بضواحي باريس وقتها، كان حدثاً معمارياً رائعاً وفريداً، وقدر له أن يفتح آفاقاً جديدةً في الممارسة المعمارية لم تكن معروفة سابقاً، كما أن لغة عمارة الجناح السويسري (مثلها مثل لغة مبنى "سينتر سيوز" <مبنى الاتحاد> (1928 - 1936) في موسكو)، أرستا معاً مبادئ عمارة الحداثة ورسختا حضور تلك المبادئ في الممارسة التصميمية.
يعتمد المعمار في صياغة الكتلة الرئيسة بمبناه على ممارسة توظيف الحجوم ذات الأشكال الهندسية الصافية الأثيرة لديه في الحل التكويني. فيبقى كتلة المبنى الأساسية في حجم موشوري Parallelepiped منتظم. يعالج لو كوربوزيه الواجهة الجنوبية للمبنى المطلة على الحديقة الرياضية للمجمع بتزجيج كامل لها، في حين يسعى وراء أن تكون الواجهة الشمالية صلدة نوعاً ما، عاملاً بها فتحات لنوافذ صغيرة تكون كافية لإنارة الممر الجانبي الذي يقود الى غرف الطلبة التي وصل عددها في "الجناح" الى 42 غرفة. أما الوجهتان القصيرتان الشرقية والغربية فيتركهما صماء بالكامل.
يظل الأمر المثير في الحل التكويني لمبنى الجناح السويسري متمثلاً في نقاط الارتكاز بين القسم الأعلى السكني الممتلئ والمؤلف من أربعة طوابق سكنية وبطول حوالي 43 متراً، وبين القسم الأسفل الفارغ من البناء تقريباً، الذي تخترقه ستة مساند مزدوجة، ترفع الجزء الأعلى. تم توقيع هذه المساند الخرسانية ليس على خط محيط المبنى، كما هي العادة؛ وإنما رتب موضوعها على امتداد المحور الطولي وبصورة عرضية منه. وقد توخى المعمار في اصطفاء مثل هذه الحالة من تلك الوضعية، الحصول على أقصى إحساس بجهد المنظومة التركيبية الحاملة، وإعطاء الشعور بتوتر عناصرها الانشائية. وليس من دون مغزى أن يتذكر المرء، وهو يشاهد تأثيرات الجهد الإنشائي الحاصل أمامه، مقولة لو كوربوزيه من أن "...بمقدور الشغف أن يخلق دراما حقيقية حتى ولو من ..المادة الخاملة"!
ينزع لو كوربوزيه في مبنى الجناح السويسري الى تأسيس مفهوم تشكيلي جديد، يكون بمثابة إضافة نوعية منه الى جنب توظيف الأشكال الهندسية الأساسية المنتظمة التي لطالما استخدمها في تصاميمه السابقة. فيحرص هنا الى إضافة حجوم صغيرة مهمتها إثراء الحلول التكوينية الحجمية للمبنى. وفي هذا الصدد فإنه يجعل كتلة بهو المدخل وفضاء المكتبة المحاور له، كتلة مستقلة موقعة خارج إطار الهيئة العامة للجناح. بيد أن هذه الكتلة تظل متصلة بالمبنى الرئيس. كما يسعى المعمار من ناحية آخرى إلى جعل الحائط المرصوف بالحجر غير المهندم (والذي يذكرنا أسلوب رصفه برصف جدران العنابر القديمة المنتشرة في الأرياف الأوروبية)، الى جعله مجاوراً للجدران الملساء لكتلة المبنى الأساسية ذات المواد الانشائية المصنعة الحديثة. وعن قيمة هذا الجدار كتب لو كوربوزييه لاحقًا: "... لاحظ كيف يمنح المنحنى الطفيف لهذا الجدار المبنى الصغير انطباعاً بطول فسيح؛ إنه يبدو بسطحه المقعر وكأنه يمتص المناظر الطبيعية المحيطة بأكملها، ويؤسس نوعاً من علاقة تمتد تأثيرها إلى ما هو أبعد من المبنى نفسه". ونزعة التضاد التي نراها حاضرة في الحلول التكوينية لمبنى الجناح السويسري سوف تتكرر في أغلب المباني التي سينفذها لو كوربوزيه لاحقاً.
لقد أثرت عمارة الجناح السويسري تأثيراً عميقاً على مسار عمارة الحداثة، وباتت أساليب معالجاتها التكوينية مرجعاً لكثير من المعماريين الذين ساروا على نهج عمارة الحداثة. ويكتب الناقد المعماري الانكليزي المعروف "رينر بانهام" (1922 - 1988) Reyner Banham، حول أهمية الجناح السويسري على تطور مسار عمارة الحداثة فيقول "..إذا توصلت إلى إدراك قيمة الجناح السويسري، فستجد نفسك بأنك قد قطعت شوطاً بعيداً في محاولة فهم عمارة الحداثة. إذ انه يضم الشيء الكثير من البراعة الحديثة الأساسية التي حافظت على نقائها خلال جميع تقلبات الاساليب السطحية الصاخبة. لقد انتشر تأثيره حول العالم وكان له دوره المميز في تغيير مجرى العمارة الحديثة الى الأبد، كما إنه يجمع بين كل ما هو "الأقل سطحية" في كلا الأسلوبين الجديد والقديم"! وعنه، عن أهمية عمارة الجناح السويسري ذكر الناقد المشهور "سغفريد غيديون" Sigfried Giedion، بأنها "أحد أكثر إبداعات لو كوربوزيه حرية وخيالاً"! ونضيف نحن كما أشرنا في عنوان هذة الحلقة من أن قيمة عمارة هذا المبنى يمكن أن تكون "درساً" تطبيقياً ومثالاً توضيحياً في قراءة عمارة الحداثة وإدراك مبادئها.
وشارل ادورد جانيريه- غري، هو اسم "لو كوربوزيه" الحقيقي، المولود سنة 1887، في سويسرا، كان والده "مزخرفاً" ورساماً للساعات. وفي عمر 13 سنة، ترك الدراسة في المدرسةـ لينضم الى ورشة "الفن التزييني" في مدينته <لا- شو دي- فون>، متتبعاً خطى والده، ليتدرب على عمليات حفر وتزيين الساعات. إلا أن أستاذه في الورشة أقنعه ان يكون "معماراً" وفي سنين ما بين 1906 و1914، تجول لو كوربوزيه كثيراً في أوروبا دارساً عمارتها، وزار إيطاليا، وفرنسا، واستراليا والمانيا وبلغاريا واليونان ووصل الى تركيا. والمعروف عنه بأنه لم يدخل ولم يتعلم في أية مدرسة معمارية. استقر منذ 1917 في باريس، وفي سنة 1920، غيّر لقبه من جانيريه الى "لو كوربوزيه" (وهو لقب جده من طرف والدته)، مجاريا بذلك "نزوة" Freak مثقفي فرنسا في العشرينيات في تغيير الألقاب! في سنة 1922 افتتح له مكتباً معمارياً، مع ابن عمه "بير جانيريه" الذي رافقه طيلة حياته المهنية. يعد واحداً من أهم معماريي القرن العشرين، وهو بالإضافة الى كونه معماراً مجدداً، فهو منظر ورسام وكاتب. وفي سنة 1965، عندما كان في الريفيرا الفرنسية، توقف قلبه فجأة عندما كان يسبح، ومات. صمم "القاعة الرياضية المغلقة" في بغداد سنة 1956، ضمن مشروع رياضي طموح شمل أيضا ملعباً واسعاً لكرة القدم. تم تنفيذ القاعة لاحقاً مابين 1979 - 1982 عند موقع ملعب الشعب.