مالك مسلماوي
في مجموعته (السنونو)(1) يقترح القاص حنون مجيد تعريفاً مجازياً لـ (للقصة القصيرة جداً), بتوكيد جنسها بكلمة (جداً) ,
إذ يشبهها بطائر (السنونو) الذي يسمى أيضاً (الخطّاف) , ففي ذلك تمييز لجنسها السردي عن القصة الطويلة والقصة القصيرة.
إن مصطلح القصة بأنواعها المذكورة آنفاً , أنبنى في الأصل على معيار كمّي , فالقصة أطول كتابياً من القصة القصيرة وهذه أطول من القصيرة جداً , ولكل جنس خصائصه المحددة على مستوى البنية الداخلية والخارجية .. فكلما تدرجنا من القصة الطويلة انتهاء بالقصة القصيرة جداً ازداد الضغط على الشكل و تنازل عن التفاصيل والتفرعات و تعدد الأحداث الى الكثافة والاختزال والإشارة والتلميح و معالجة حدث محدد أو جزء من حدث..
و القصة القصيرة جداً تتجاذب مع جنسين هما الأقرب إليها هما : القصة القصيرة "وقدرتها على سحب وإغراء المتلقي لتقدم له ما هو معرفي وجمالي حديث يتناسب ومستوى وعيه الذي بدأ بالتشكل على نحو واسع ومتقدم باتجاه المعرفة الممنهجة والشاملة"(2). و الجنس الآخر هو النص الشعري (المسرّد).
و إذا كان السرد فناً مقابلاً للشعر و بينهما تداخل ما , خاصة من جهة الشعر الذي يقع في السرد كثيراً .. إلا أنه – هنا - يحدث العكس إذ يقع السرد في الشعر باستعارة أدواته ومنها اللغة المضغوطة والتخييل و الرمز.., لذا يعد هذا الجنس محاولة لتضييق أو محو الفاصلة بين السرد والشعر. ف(القِصَر) لا يحيلنا الى التحديد الكمي و حسب , إنما يضعنا أمام شكل مغاير مؤهل للتعبير عن مضامين مغايرة تحمّل الوحدة السردية مسؤولية الكشف أو الإيحاء عن فكرة محددة يتمحور حولها النص ..
نقرأ نص العنوان (السنونو) :
"سألت الحمامة الغراب: ما تعريفك للقصة القصيرة جداً يا غراب ؟ قال :
هي خطف على الحياة لخطف ما يخطف, قالت : قل هي السنونو يا غراب, قال : أحسنت هي السنونو يا حمامة ! " ص 34
لقد أراد المؤلف أن يقربنا من معنى مصطلح (ق.ق.ج) بوحدة سردية حوارية طريفة بين الحمامة الذكية والغراب الحكيم ... فالخطف هو أخذ الشيء بسرعة أو سرقته أو المرور عليه سريعاً " وقيل هو مأخوذ من الخطف وهو الخَلٌس , وجمل خيطف سيره كذلك أي سريع المرّ" (3)
تذكرنا قصة العنوان بحكايات (كليلة ودمنة(4) الموضوعة على ألسنة الحيوان و التي تأخذنا الى قناعة بأن هناك جذوراً عميقة للقصة القصيرة أو القصيرة جدا في تاريخنا , وإنْ عدّها المعنيون من الأجناس الحديثة في الأدب العربي , و تتخذ هذا المنحى كثيراً من قصص هذه المجموعة , التي تعتمد على آلية (أنسنة) كل شيء : الطبيعة و الحيوان , و الأشياء المختلفة المادية والمعنوية التي يشيع تداولها اليومي . نقرأ :
من نظام الغاب
" حدّد ذكر الغزال حدود منطقته و شحذ قرنيه , فكل من يدخلها معتد أثيم و استعد للنزال . لم يدخل المنطقة ذكر آخر, ليس لأن لا بد من هزيمته , بل لأن هذا من نظام الغاب " ..... ص 7
تكونت القصة السابقة من عدد من الوحدات السردية المتعاقبة لتنتهي بالعبارة التعليلية (لأن هذا من نظام الغاب) .. نهاية تفاجئ القارئ , و تمثل الغاية التي صيغت من أجلها القصة , يريد الراوي (المؤلف) و هو راوٍ خارجي أن ينبهنا الى أن ضرورة النظام في الحياة الانسانية فحتى الحيوان يحكمه النظام في مجتمع الغاب . أو الايحاء بان ما يحصل في الواقع الاجتماعي شبيه بنظام الغاب. و لا يتوقف المؤلف عند (أنسنة) الطبيعة الحية والجامدة بل يؤنسن المفاهيم والمعاني أيضاً , مثل قصص (افتراق) و (حوار الأمانة والغش)..
تحتم (الأنسنة) صيغة الروي الخارجي , بينما يعتمد الروي الداخلي حين يكون الراوي هو البطل أو الشخص الأول في القصة . فكثير من القصص من هذا النوع , إذ تستقي هذه القصص موضوعاتها من التداول اليومي وأحياناً مما يلتقطه القاص من مشاهداته أو من سيرته الذاتية:
هو و أنا
"أطلق جاري كامل فرحه بإنجاز بيته الثالث , كتمت عنه فرحتي المقابلة , و أنا أنجز كتابة روايتي الاولى " ............... ص66
هكذا يجد القارئ في كل نص معطيان : ظاهر و مضمر , و في المضمر تكمن اهمية النص و مراميه العميقة التي هي الحقيقة المتخفية و الكامنة داخل النص , لذا فالقصة لا تنتهي بانتهاء قراءتها , فهي تسحب القارئ الى حالة من التأمل الذي عن طريقه تكتمل القراءة.. فالنص بلغته المنكشفة و تجاذبه مع المنظور الواقعي والتفاصيل العادية في الحياة اليومية يبدو للوهلة الأولى أو لقارئ عادي فاقداً للإثارة , لأن الاثارة ليست في الواقعة المحسوسة، إنما في المعاني المدركة التي بها تكتمل القراءة. وبهذا تأخذنا(السنونو) من المرئي الى اللامرئي في حياتنا المليئة بالهموم والصخب. نكتشف النص المضمر (اللامرئي) , بمفاتيح النص المرئي التي نجدها دائماً في آخر القول ..و نختم بما ختم به الكتاب :
ردّه عليّ
"وقفت أمامه بإجلال وشكوت حالي: سيدي الأبلغ , لقد جف قلمي وانتهت كلماتي , وها أنا أعيد كلام غيري. ربت على كتفي ورد بتطمين كريم: لولا أن الكلام يعاد لنفذ."
...................................................
1- حنون مجيد/ السنونو/ ط1-2018/ دار غراب للنشر والتوزيع- القاهرة
2-القصة القصيرة العراقية وخطاب الواقع/ عبد علي حسن. الصباح الجديد ثقافة مايو 19, 2017.
3- من معاني (خطف) في معجم الرائد و لسان العرب.
4- وضعه (بيديا) كبير حكماء الهند, ونقله من الفهلوية الى العربية عبد الله بن المقفع /ط1 دار كرم / دمشق .
جميع التعليقات 1
Anonymous
تحيا وامنيات لكل العاملين في الجريدة..شكرا للمحرر الثقافي.