TOP

جريدة المدى > عام > النص المضمر..فـي قصص حنون مجيد

النص المضمر..فـي قصص حنون مجيد

نشر في: 2 نوفمبر, 2020: 06:18 م

مالك مسلماوي

في مجموعته (السنونو)(1) يقترح القاص حنون مجيد تعريفاً مجازياً لـ (للقصة القصيرة جداً), بتوكيد جنسها بكلمة (جداً) ,

إذ يشبهها بطائر (السنونو) الذي يسمى أيضاً (الخطّاف) , ففي ذلك تمييز لجنسها السردي عن القصة الطويلة والقصة القصيرة.

إن مصطلح القصة بأنواعها المذكورة آنفاً , أنبنى في الأصل على معيار كمّي , فالقصة أطول كتابياً من القصة القصيرة وهذه أطول من القصيرة جداً , ولكل جنس خصائصه المحددة على مستوى البنية الداخلية والخارجية .. فكلما تدرجنا من القصة الطويلة انتهاء بالقصة القصيرة جداً ازداد الضغط على الشكل و تنازل عن التفاصيل والتفرعات و تعدد الأحداث الى الكثافة والاختزال والإشارة والتلميح و معالجة حدث محدد أو جزء من حدث.. 

و القصة القصيرة جداً تتجاذب مع جنسين هما الأقرب إليها هما : القصة القصيرة "وقدرتها على سحب وإغراء المتلقي لتقدم له ما هو معرفي وجمالي حديث يتناسب ومستوى وعيه الذي بدأ بالتشكل على نحو واسع ومتقدم باتجاه المعرفة الممنهجة والشاملة"(2). و الجنس الآخر هو النص الشعري (المسرّد).

و إذا كان السرد فناً مقابلاً للشعر و بينهما تداخل ما , خاصة من جهة الشعر الذي يقع في السرد كثيراً .. إلا أنه – هنا - يحدث العكس إذ يقع السرد في الشعر باستعارة أدواته ومنها اللغة المضغوطة والتخييل و الرمز.., لذا يعد هذا الجنس محاولة لتضييق أو محو الفاصلة بين السرد والشعر. ف(القِصَر) لا يحيلنا الى التحديد الكمي و حسب , إنما يضعنا أمام شكل مغاير مؤهل للتعبير عن مضامين مغايرة تحمّل الوحدة السردية مسؤولية الكشف أو الإيحاء عن فكرة محددة يتمحور حولها النص ..

نقرأ نص العنوان (السنونو) :

"سألت الحمامة الغراب: ما تعريفك للقصة القصيرة جداً يا غراب ؟ قال :

هي خطف على الحياة لخطف ما يخطف, قالت : قل هي السنونو يا غراب, قال : أحسنت هي السنونو يا حمامة ! " ص 34

لقد أراد المؤلف أن يقربنا من معنى مصطلح (ق.ق.ج) بوحدة سردية حوارية طريفة بين الحمامة الذكية والغراب الحكيم ... فالخطف هو أخذ الشيء بسرعة أو سرقته أو المرور عليه سريعاً " وقيل هو مأخوذ من الخطف وهو الخَلٌس , وجمل خيطف سيره كذلك أي سريع المرّ" (3) 

تذكرنا قصة العنوان بحكايات (كليلة ودمنة(4) الموضوعة على ألسنة الحيوان و التي تأخذنا الى قناعة بأن هناك جذوراً عميقة للقصة القصيرة أو القصيرة جدا في تاريخنا , وإنْ عدّها المعنيون من الأجناس الحديثة في الأدب العربي , و تتخذ هذا المنحى كثيراً من قصص هذه المجموعة , التي تعتمد على آلية (أنسنة) كل شيء : الطبيعة و الحيوان , و الأشياء المختلفة المادية والمعنوية التي يشيع تداولها اليومي . نقرأ :

من نظام الغاب

" حدّد ذكر الغزال حدود منطقته و شحذ قرنيه , فكل من يدخلها معتد أثيم و استعد للنزال . لم يدخل المنطقة ذكر آخر, ليس لأن لا بد من هزيمته , بل لأن هذا من نظام الغاب " ..... ص 7

تكونت القصة السابقة من عدد من الوحدات السردية المتعاقبة لتنتهي بالعبارة التعليلية (لأن هذا من نظام الغاب) .. نهاية تفاجئ القارئ , و تمثل الغاية التي صيغت من أجلها القصة , يريد الراوي (المؤلف) و هو راوٍ خارجي أن ينبهنا الى أن ضرورة النظام في الحياة الانسانية فحتى الحيوان يحكمه النظام في مجتمع الغاب . أو الايحاء بان ما يحصل في الواقع الاجتماعي شبيه بنظام الغاب. و لا يتوقف المؤلف عند (أنسنة) الطبيعة الحية والجامدة بل يؤنسن المفاهيم والمعاني أيضاً , مثل قصص (افتراق) و (حوار الأمانة والغش).. 

تحتم (الأنسنة) صيغة الروي الخارجي , بينما يعتمد الروي الداخلي حين يكون الراوي هو البطل أو الشخص الأول في القصة . فكثير من القصص من هذا النوع , إذ تستقي هذه القصص موضوعاتها من التداول اليومي وأحياناً مما يلتقطه القاص من مشاهداته أو من سيرته الذاتية:

هو و أنا

"أطلق جاري كامل فرحه بإنجاز بيته الثالث , كتمت عنه فرحتي المقابلة , و أنا أنجز كتابة روايتي الاولى " ............... ص66

هكذا يجد القارئ في كل نص معطيان : ظاهر و مضمر , و في المضمر تكمن اهمية النص و مراميه العميقة التي هي الحقيقة المتخفية و الكامنة داخل النص , لذا فالقصة لا تنتهي بانتهاء قراءتها , فهي تسحب القارئ الى حالة من التأمل الذي عن طريقه تكتمل القراءة.. فالنص بلغته المنكشفة و تجاذبه مع المنظور الواقعي والتفاصيل العادية في الحياة اليومية يبدو للوهلة الأولى أو لقارئ عادي فاقداً للإثارة , لأن الاثارة ليست في الواقعة المحسوسة، إنما في المعاني المدركة التي بها تكتمل القراءة. وبهذا تأخذنا(السنونو) من المرئي الى اللامرئي في حياتنا المليئة بالهموم والصخب. نكتشف النص المضمر (اللامرئي) , بمفاتيح النص المرئي التي نجدها دائماً في آخر القول ..و نختم بما ختم به الكتاب : 

ردّه عليّ

"وقفت أمامه بإجلال وشكوت حالي: سيدي الأبلغ , لقد جف قلمي وانتهت كلماتي , وها أنا أعيد كلام غيري. ربت على كتفي ورد بتطمين كريم: لولا أن الكلام يعاد لنفذ."

...................................................

1- حنون مجيد/ السنونو/ ط1-2018/ دار غراب للنشر والتوزيع- القاهرة

2-القصة القصيرة العراقية وخطاب الواقع/ عبد علي حسن. الصباح الجديد ثقافة مايو 19, 2017.

3- من معاني (خطف) في معجم الرائد و لسان العرب.

4- وضعه (بيديا) كبير حكماء الهند, ونقله من الفهلوية الى العربية عبد الله بن المقفع /ط1 دار كرم / دمشق .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. Anonymous

    تحيا وامنيات لكل العاملين في الجريدة..شكرا للمحرر الثقافي.

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram