ترجمة أحمد الزبيدي
صدر مؤخراً كتاب جديد للروائي الشهير ماريو فارغاس يوسا بعنوان (نصف قرن مع بورخيس ) يوضح فيه أهمية أعمال خورخي لويس بورخيس بالنسبة له.
فهو الكاتب الذي يمتعه كثيراً كقارئ ، والذي لا يخيب ظنه أبداً، على عكس الآخرين. ، في السنوات الأولى التي بدأ فيها هذا الروائي حياته ككاتب كان يتحدث مع أصدقائه وزملائه بحماس عن المؤلفين الآخرين - وخاصة سارتر والتزامه السياسي – وظل إعجابه ببورخيس خفيا ولكنه كان في صمت قد كرس وقته لقراءة اعمال بورخيس. وقد أشار فارغاس يوسا في هذا الكتاب الذي جمع فيه عدد كبير من المقالات والمحاضرات والمراجعات التي تناولت أعمال بورخيس: "أن جمال وذكاء العالم الذي ابتكره بورخيس ساعدني في اكتشاف محدودية عالمي، كما أن الكمال في واقعيته عرفني بنواقصي"، وتضمن الكتاب أيضاً مقابلتين أجراهما معه ، الأولى عام 1963 والثانية عام 1981.
يبدأ الكتاب بالتحديد بتلك المقابلة الأولى التي أجراها فارغاس يوسا لصالح محطة الإذاعة والتلفزيون الفرنسي خلال عدة أيام قضاها بورخيس في باريس ضمن جولته في ألمانيا والسويد والدنمارك ، برفقة سكرتيرته ماريا إستر فاسكيز. . في ذلك الوقت ، كان بورخيس قد أصبح كاتباً معروفاً على نطاق واسع في فرنسا. أشار فارغاس يوسا إلى مدى أهمية قبول أعمال الكاتب الأرجنتيني بورخيس بين النقاد والقراء الفرنسيين لكي يترسخ كواحد من أعظم الكتاب. يقول بورخيس في تلك المقابلة : "لقد جعلني الفرنسيون مشهوراً". ، يروي الكاتب الارجنتيني الخجول والضرير كيف كان من المدهش أن يبدأ الآخرون في قراءة كتبه: "أتذكر دهشتي وسعادتي منذ عدة سنوات عندما علمت انه تم بيع سبعة وثلاثين نسخة من كتابي( تاريخ الخلود) في سنة واحدة. كنت أرغب في أن أشكر شخصياً كل المشترين ، أو أقدم أعتذاري لهم ".
يخبرنا فارغاس يوسا كيف شعر في تلك المقابلة انه كان يتحاور بالفعل مع خورخي لويس بورخيس ،و إنه حقق انجازاً حين تمكن من إجراء مقابلة معه ، وهو ما لم يشعر به مرة أخرى في المقابلات التي أجراها معه بعد ذلك ، والتي كانت عدة مقابلات وفي بلدان مختلفة وأحياناً في منزل واحد منهما. "لكن في أي من تلك المقابلات لم أشعر وكأننا كنا نتحاور. فقد كنت مستمعاً له فقط ، وليس محاوراً. كان الرجل الأكثر احتراماً في العالم وقد أعطى انطباعاً هائلًا بالوحدة". وصف فارغاس يوسا هذا الشعور بالوحدة في مقدمة المقابلة الثانية التي أجراها مع بورخيس ، في عام 1981. وكان مكان تلك المقابلة منزل الكاتب الأرجنتيني: يقول يوسا"إن بورخيس كان يعيش في شقة بغرفتي نوم وغرفة طعام ، في وسط مدينة بوينس آيرس ، مع قطة تسمى بيبو (على اسم قطة اللورد بايرون) وخادمة من مدينة سالتا في الأرجنتين، كانت تطبخ له وتعمل أيضاً كمرشد له. كانت قطع الأثاث قليلة ، وقديمة ، والرطوبة قد طبعت دوائر داكنة على الجدران. كان هناك تسرب للمياه في غرفة الطعام. وكانت غرفة نوم والدته ، التي عاش معها طوال حياته ، سليمة ، موضوعها فيها فستان أرجواني مفرود على السرير ، جاهز لارتدائه. مع ان السيدة قد ماتت منذ عدة سنوات ”. عندما سأله فارغاس يوسا عن أسلوب حياته الزاهد، أجاب بورخيس: "الفخامة تبدو مبتذلة بالنسبة لي".
في نفس المقابلة ، سأله فارغاس يوسا عن موضوع سيتم تناوله أيضاً في فصل كامل من هذا الكتاب: علاقة بورخيس بالسياسة ، والتي عرّفها الأرجنتيني بأنها "أحد أشكال الملل". شعر بورخيس بأنه غير قادر على الإعجاب بالسياسيين ، الأشخاص الذين يكرسون حياتهم في "تقديم التنازلات ، وعرض الرشوات ، ورسم الابتسامات ، والبحث عن الشهرة". على الرغم من طريقة تفكيره هذه، كان لديه دائماً موقف سياسي تسبب في كثير من الأحيان في الجدل. كانت آرائه السياسية واضحة في بعض المقالات المنشورة في مجلة سور الأدبية ، التي أسستها ورأست تحريرها الكاتبة والمفكرة الأرجنتينية فيكتوريا أوكامبو ، وهي مقالات علق عليها فارغاس يوسا في هذا الكتاب. كانت معاداة بورخيس للحكم اللبيروني معروفة. وتحدث في عدة مقابلات عن السعادة التي شعر بها عندما انتصرت الثورة التي أطاحت ببيرون.وهو الموقف الذي عرَّفه فارغاس يوسا على أنه موقف متماسك ،عند الأخذ في الاعتبار طريقة تفكير الكاتب الأرجنتيني ، لكنه يؤكد أن هذا التماسك قد تهشم بسبب الدعم الذي قدمه بورخس للديكتاتوريات العسكرية الأرجنتينية التالية. ويثير فارغاس يوسا في البداية أنه يمكن فهم هذا الدعم على أنه ظرفي. لكن بعد ذلك: لماذا استمر على موقفه ؟ يعلق فارغاس يوسا قائلاً: "لم يعد من السهل تفسير تعاطف بورخيس مع النظام العسكري على أنه مجرد شعور واهم ، بالإضافة إلى أنه قبل بعدد من المناصب والامتيازات التي منحت له دون أدنى تردد".
كانت القضية السياسية ، في كتاب نصف قرن مع بورخيس ، مصحوبة بأمور أخرى مثل أهمية الأرجنتين لكتاب أمريكا اللاتينية ، ومنهم الكاتب الأوروغواني خوان كارلوس أونيتي ، وهو صاحب أعمال مختلفة تماماً عن أعمال بورخيس. . "لم يذكر تأثير بورخيس في أونيتي إلا من قبل النقاد ، على الرغم من حقيقة أن تأثير بورخيس عليه كان كبيراً ، بالمعنى الحرفي للكلمة، لأنه يمس جوهر العالم الذي خلقه أونيتي في عمله"
يختتم فارغاس يوسا الكتاب بفصل بعنوان "جولة بالمنطاد" يصف فيه ما كان يمكن أن يكون بالنسبة للبيروفيين أكثر المراحل بهجة وإرضاءً في حياة بورخيس ، وهي المرحلة التي وصفها في كتابه أطلس ، الذي كتبه بالتعاون مع زوجته ماريا كوداما. التي لا تزال تتعرض لانتقادات واسعة النطاق حتى اليوم من قبل أصدقاء وأقارب الكاتب (ظلماً ، حسب رأي فارغاس يوسا) – هذا الكتاب الذي نُشر عام 1984. يتضمن صوراً وملاحظات عن الرحلات التي قام بها الزوجان حول العالم لمدة ثلاث سنوات. حيث يصفه فارغاس يوسا قائلاً: "لا يمكن لأحد أن يقول إن الذي كتبه هو شخص ضرير في الثمانين من عمره، لأنه يعج بحماس وروح شبابية محمومة لكل ما يلمسونه ويدوسون عليه". وهو شيء لم يكن قليلًا بالنسبة لبورخيس ، الذي كتب يقول: "لقد قرأت أشياء كثيرة وعشت القليل".
وبهذا الفصل يُنهي فارغاس يوسا كتاباً يُظهر من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة ، مدى الاحترام الذي كان يكنّه لكاتب يعرِّفه بأنه أحد أعظم الكتاب في تاريخ الادب. بسبب العالم الذي خلقه وبسبب ثقافته الأدبية ،و لدقته ، وذكائه ، وروح السخرية التي تمتع بها.
عن موقع نيوز توداي