حيدر عبد المحسن
عنوان المجموعة الشعرية "ألوان السيدة المتغيرة"هو أقرب إلى معرض فنيّ منه إلى ديوان شعر، وشيئاً فشيئاً، ومع مرور الصفحات، يتبيّن للقارئ البرهان الذي يضعه فاضل السلطاني على مصاحبة الشعر الحديث لفني الرسم والنحت:
زرقاءَ كنتِ تحت ذراعي
وكان الثلجُ الأزرقُ يُمطرُ
زرقاءُ أنتِ كأنّ السماءَ قبعتُك.
وكان الليلُ الأزرقُ يمطرُ
لا يحتاج الشاعر الحديث الى أن يُكثر من الاستعارة والجناس والتشبيه مثل أسلافه, ذلك أن قصيدته تقوم بالأساس على ما نسمّيه اليوم بالصورة الشعرية، وهي لوحة فنية يقوم بالتفاصيل اللونية وضبط المنظور وتوزيع الظلال وغير ذلك فيها رسّام درس اللون أكثر من الحرف. المرأة تتلون بالأزرق لأن الشاعر يراها زرقاء، وكذلك الثلج الأبيض أزرق اللون، والليل أزرق، والمدينة، والعالم. عندما تُسلب منا كينونتنا بسبب الفقر أو المرض أو الشعور المكثّف بالغربة، يكون ردّ الشاعر عليه أنه يسلب من الوجود - واقعيته - ليعبّر عنه بالكلام الذي يشعر به، لا بما تأتي به صيغ التعريف وفقاً للحساب والعقل والمنطق. ثم تصاحبنا ,
ورفعنا نخبَ العشّاق المخدوعين ,
وتبادلنا الرقصَ على الأرض...
كنّا نعرفُ كم نحنُ نحيفونَ وهشّونَ
كما القشُّ وراء زجاج البارِ
حيث يعبُّ الكونُ
الضوءَ الأحمرَ من ساقِ امرأةٍ
إن الشاعر يقوم برسم اللوحة, ومن ثم يرسمها لنا ثانية بريشة الكلمات, وربما كانت واحدةً من الصور التي عذّبته في الحلم, شقّت ستار النوم, وجاءت لتستقر ثابتة كجزءٍ مما نسمّيه الواقع. وهكذا يطوي السلطاني اللوحات في ديوانه الشعري, ويفضّها بسهولة, ويشاء أن يجرّب حظّه في النحت, فكما أن الكلمات خطوط وألوان, يمكنه أن يجعلها طيناً أو حجراً مطواعاً لإزميله:
أشكلك في سبع خطواتٍ
أقول لك: انطقي
ثمّ أكسركِ
أقول لك: كوني
حرٌّ أنا
ألعبُ بك كما أشاء
لكن الشاعر يميل إلى الرسم أكثر, وتنتقل ريشته بين مدارس الفن الحديث, فنشاهد لوحة سريالية يسير فيها شخص مجرّد من الصفات والسمات والتعابير كلّها, شخص هو أيّ منا, وهو كلّنا مجتمعين:
أذكرُ اللا أحد
وهو يغمضُ عينيه ثم يسيرُ
كم من الرموز تضمّ بين كلماتها القليلة هذه الصورة؟ هنالك لا أحد الأسطورة ولا أحد الواقع ولا أحد الحلم. عندما يصرخ السيكلوب بعوليس: من أنت؟ يجيبه قائلاً: لا أحد! ويبحث هذا اللا أحد عن طريق له وسط اللجة. فاضل السلطاني يعيش في مكان لا يستطيع السائر أن يتقدم فيه, وهكذا يغمض عينيه لأنه نسي كلمة السرّ, كلمة المرور. ودون أن يشعر, ينغمس القارئ في موضوع السياسة, يقوده الشاعر في دربه برفق, ويكاد حديثه أن يكون همساً, فلا خطباً رنّانة ولا ضجيج الحفل المكتوم الذي يصغي, منتظراً الفرصة التي يحمي بها يديه بالتصفيق للشاعر. هنا يقول الشعر كلمته، وكأنها لشخص مستوحد يحدّث نفسه:
ماذا سأفعل بالحرب هذه الليلة
كيف أقتلها
حتى لا تنهض في الصباح
معربدةً في الدروب؟
السلطاني من الجيل الذي تعاقبت عليه الحروب مثل الفصول, حرب في شمال الوطن, وأخرى مع إيران, وحرب تحرير الكويت, والحرب الأخيرة التي لا تريد أن تنتهي, وهو لا يريد أن يسمّي أحداً مسؤولاً عن الخراب الذي حلّ في بلده من جرّائها, لكنه يرمز إليه بال"طاغية":
ماذا أفعل بهذه الحرب؟
ماذا أفعل بهذا الطاغية؟
ها هما أمامي:
يدخل فيها
وتدخل فيه
2
العبارة الرشيقة وحدها تدخلُ قاموس فاضل السلطاني الشعريّ, وكأني به مشغول طوال الوقت وهو ينعّمها, ويزيل منها ما يدلّ على الجَفاء والقسوة والشدّة في المعنى, إلى أن تهيّأ له هذا الكلام ذو الظلال الناعمة والدقيقة, والذي يتساوى فيه الشعور بالفقدان مع الإحساس بالامتلاء, نقيضان لا يجتمعان البتةَ في الواقع, وكان جهد الشاعر في أغلب قصائد مجموعته "ألوان السيدة المتغيرة" أن يثبت لنا أنهما يتبادلان الدور. الخسارة والربح, المبتدأ والمنتهى, الحضور والغياب, بل إننا لا نعرف إن كان الشاعر متألماً وهو يخاطب أخته المتوفّاة, أم متنعّماً:
كلّ شيء تغيّر بعد الغيابِ ,
وعمّا رأيتِ على الأرضِ ما قبل قبركِ
ثمةَ طيرٌ على القبرِ يخفقُ طول الصباحْ ,
والمدارسُ تفتحُ أبوابها
بانتظارِ دروسكِ في الحبَّ...
كيف يكون المرء يائساً وحكيماً في آن واحد؟ الموت محزن بالطبع, لكنه حين يفضي إلى أن يُحضرَ معه طائرُ يخفق طول الصباح, ويعلّم التلاميذ الدروس في الحبّ, فإن الأمر لا يكون عزاءً بالمرّة. إنه الحضور القويّ للحياة في حضرة الحبّ, كما أن العاطفة الغامضة التي يأتينا بها هذا النوع من الشعر يمتزج فيها الهمّ الكاسر مع الشعور التامّ بالسعادة, فلا يكاد يبين الاثنان, ويصير الشعر عندها تراتيل بشرية مفعمة وجداً, غير سماوية, لا أحد تبلغه حتى في أعلى يأسه إلّا وجعلته يبات ليله منتشياً بنفحة الأمل.
كان العرب يجمعون بين النقيضين في الشعر, ويدعونه طباقاً, ويعتنون به كثيراً لأنه شيء جذريّ في الوجود, وليس فرعيّاً, كما أنهم اعتبروه الواسطة الأفضل لطرح حقيقة موقفهم من الحياة, عبر التأمل. وهكذا توسّعوا فيه, فصار لديهم الطباق أنواعاً, الطباق الحقيقي والمجازي والمعنوي, وهو الأقرب لما استعمله السلطاني في شعره في هذه المجموعة. ويُمكننا عدّ هذا الفعل للشاعر, أي إعادة العمل بلون من ألوان البديع القديمة, بالوثبة الجريئة نحو الماضي خطف الشاعر بها الطباق الموجود في الواقع, ونقله إلى صفحات الشعر, كما أثبت بأنه مادة متميزة في فنّ الشعر,علينا إعادة النظر في مسألة إهماله من قبل شعرائنا اليوم.
لم يبقَ شيءٌ
حزمةُ موسيقى تطيرُ في الهواء
لاعبان يرقصان مشدودين على الحبال
.. وجسدان يهمدان
في أول الليل
غريبين عن الأرض التي
دارت على السرير.. مرتين
الراقصان مشدودان فوق الحبال, وطوال الوقت يرقصان, وهما هامدان في الليل كذلك, تدور عليهما الأرض في السرير, مرّتين. إنها صورة أكثر من إيروتيكية, وأقلّ, في الوقت نفسه. يمكن تسمية الطباق هنا بالطباق السردي, حيث تجتمع صورة حياتية مع أخرى هي نقيضتها في اللون والطعم والرائحة, مثل اجتماع الماء بالنار, يسخنان ويبردان في البودقة نفسها, وتنتج عن هذا الاتّحاد العجيب الخمرة. ولكن اللغة ليست دوماً هي أداة لقول أشياء, وإنما يمكن أن تكون موسيقى وعاطفة, يعبّر الشاعر بواسطة صوته أكثر مما يبلغنا منه بواسطة الكلمات:
ثم ندخلُ في حزمة النارِ ,
فوق الحشائشِ ,
أنا وكتابي والطير...
كيف تهيّأ للسلطاني الجمع بين النار, والحشائش, مع الكتاب والطير؟
هنالك أفكار لا يمكن أن نجد لها كلمات: أفكار صمّاء, أفكار ضائعة, أفكار منفلتة, وهنا يأتي الدور على صوت الشاعر الذي لا نراه مطبوعاً بصورة كلمات على الورق, لكن أثره - صداه - يبلغ من القوة أنه يقوم بهذه المهمة؛ البوح بكل ما لا يستطيع قوله. في ديوان "ألوان السيدة المتغيرة" يحاول السلطاني أن يكشف لنا عن طريق هذا الصوت العاطفة التي تصاحب شعورنا بالحزن وبالفرح, ويختلط عليه الأمر, ويلتبس الأمر علينا, فلا نعرف الفرق بين الاثنين. إن صوت الشاعر يكلّم صوتنا, يحرّفه, فليكن الصمت موجاً مشتركاً بيننا. الصوت الطاهر الصافي وحده الذي يتسع حتى تبلغ أمواجه شواطئ الألم واللذة على حدٍّ سواء, والأمل واليأس, والحياة والموت.
وهل هذا قليل؟
كل تناقض مؤلم, والشاعر الحقّ هو من يحلّ عقدة هذا الألم، وخلف كل عقدة ثمة عقدة جديدة. نحن نعرف عظمة الشاعر كافافيس المتأتية بالدرجة الأساس من مرحه العجيب في الجمع غير المعقول بين النصر والهزيمة, بين اليأس والأمل، بين الامتلاك والفقدان... وكان الشاعر يستحضر كل ذلك من حضارة الأسلاف الهيلينية التي لم تورثه غير الصداع اللذيذ الذي أدمن عليه، وعجز الدواء عن تقديم المساعدة, فالتجأ الشاعر في الأخير إلى ملاذ القصيد, ولولا هذاالصداع لما كُتبت قصائد الشاعر العظيمة, والتي دمج فيها كافافيس أشكال الوجود التي لا يبدو عليها الشبه في الواقع, وإذا هي متماثلة ومتساوقة ومتطابقة تماماً بفضل مرآة الشعر التي تكشف لنا كلّ مخبوء.
في قصيدة أخرى يكتبها الشاعر عن أمه, يعبّر فيها عن حالة وجدانية فريدة تماهت فيها لديه صورة الأم وهي حيّة, وهي ميتة:
أسمع طول الليل يا أمي صلاتك الأخيرة
وألمس الجبين وهو ينحني إلى الإله
أنت هنا أيتها الميتة في غرفتي الصغيرة
النقطة الأقرب في الكون إلى الحياة
إنه يلمس جبين أمه حين يصله صوتها وهي تصلّي, وقد تحقّق لديه حضورها رغم كونها ميتة. إنه حضور وغياب يجتمعان معاً, وهو طباق معنويّ يحاول الشاعر أن يحشر فيه أكثر المواد تبياناً وبعداً, دون أن يعطي القارئ الفرصة للتشكيك فيما يقوم به من عمل. إن عقدة الألم يحلّها الشعر، لكن الألم يبقى، إنما يخففه نوع من التشويش والضبابية تكفيان كي يخلص الشاعر بواسطتهما من وطأته، حتى لو كان بالخيال فقط.
كلنا بشر, ننتصر وننهزم وتظلّ روحنا ويظلّ جسدنا نفسه, وهو يرتحل بين مكانين, من الظل إلى الهجير ومن الهجير إلى الظل, وفي المكانين هنالك بشرٌ لا يختلفون كثيراً عن بعضهم بعضاً. وبنفس روحيّة الجمع بين الأضداد يتساءل الشاعر في قصيدة أخرى عمّا إذا كان العالم الذي يجري أمامه موجوداً أم أنه ممحوٌّ تماماً, مثل سرب من النمل يظهر برهةً ثم يختفي, دون أن يترك وراءه أيّ أثر: .. وتزيحُ الستائرَ ثم تغلقها
كلما يسقط الضوءُ
ينمو الغبارُ على النافذة
وهمُ يعبرونَ أمامكَ سرباً من النمل
يولدُ, ثم ينفقُ, ثم يبعثُ...
فوق الرصيفْ.
الطباق هنا مجازيّ بامتياز, والتسكين فوق الحرف الأخير من القصيدة وضعهُ الشاعر ليعطي قولَهُ نصاعة وثبات وقوة قرار الحكم الذي يصدره القاضي في
النهاية. لا تترددوا في فهم ما قلته لكم, يقول الشاعر, فنحن نعيش في العصر الذي تجتمع فيه الأضداد, وتنتعش, وتتعاشر, وتفنى, وتُبعث.
عندما يتكلّم الشاعر عن نفسه يأتي شعره خاصاً به. أمه وأخته وابن أخته, وصديقه وامرأته وبيته. يسأل الشاعر امرأته:
متى سوف تكتملين؟
كم من الموت سوف تحتاجين مني لتكتملي؟
...
هل قرأتم شعراً يتمّ فيه الطباق بهذه الصورة؟