لطفية الدليمي
متعةٌ عظيمةٌ - بالتأكيد - تلك التي يتحصّلها المشاهدُ للحلقات الرائعة لمقدّم البرامج الحوارية الأشهر ( ديفيد ليترمان David Letterman ) ، وقد استمتعتُ في الأيام الماضية بمشاهدة العديد من تلك الحلقات مع شخصيات استثنائية لم تقلّ روعتها عن المقدّم ذاته ؛ لكن إستوقفتني الحلقة مع ( ميليندا غيتس ) زوجة بل غيتس أحد أكبر مشاهير عصرنا .
ليست ميليندا غيتس غريبة عنّي ؛ فقد سبق أن تابعتُ أعمالها الخيرية برفقة زوجها في كلّ بقاع العالم الفقيرة وهي تتابع حملات التلقيح الواسعة ضد شلل الأطفال ومساعدة ضحايا الملاريا ، كما قرأتُ عروضاً مسهبة عن كتابها المنشور عام 2019 بعنوان ( لحظة الإرتقاء : كيف يغيّرُ تمكين النساء العالم The Moment of Lift: How Empowering Women Changes the World) ؛ غير أنّ البرنامج جعلنا نرى ميليندا وجهاً لوجه ، بأناقة بسيطة وبلا اكسسوارات أو بهرجة ،تتحدّثُ بتلك الطاقة العجائبية عن مشروعاتها الحالية والمستقبلية في إطار أعمال ( مؤسسة ميليندا وبل غيتس ) ، وقد تناولت في أحاديثها هذه موضوعات ستراتيجية على صعيد توفير اللقاحات وتنظيم الأسرة .
هناك الكثير من التفاصيل التي تستحق حديثاً مفصلاً في هذا الحوار الجميل ؛ لكني سأقتصرُ على مفردة واحدة منها . المعروفُ أنّ مؤسسة ميليدا وبل غيتس تسعى لتوفير الوسائل الخاصة بتنظيم الحمل للمرأة لحماية صحتها وعدم تحويلها إلى مصنع لتفريخ الكائنات البشرية التي ستصبح عبئاً لايحتمل على العائلة المعدمة أصلاً فضلاً عن استنزاف صحة الأم ، والمعروف أيضاً أنّ ميليندا كاثوليكية النشأة ، والإيمان الكاثوليكي لايجيز تنظيم الحمل باعتبار أنّ الاطفال أعطية مجانية من الرب ؛ هنا يسأل ليترمان ميليندا : الاتجدين تعارضاً بين أعمالك الخيرية في إطار تنظيم النسل وبين معتقداتك الكاثوليكية؟ فتجيب : الإيمان مسألة شخصية تماماً ؛ لكنّ عيش الحياة ومواجهة معضلاتها تتطلبُ سياسات قد لاتكون متوافقة مع أصول الإيمان الديني ، وتقتضي العقلنة أن نتبع موجبات العيش الأفضل دوماً .
وفّر البرنامج لي فرصة جميلة لرؤية بل غيتس في منزله وهو يتناول شطيرة من زبدة الفستق مع ليترمان ؛ فظهر رجلاً خجولاً تميزه بساطة غير مصنوعة . من المعروف أنّ غيتس كان بعيداً كلّ البعد عن العمل الخيري في بواكير حياته ، وعندما طُلِب إليه أن يتبرّع بشيء من ماله بعد أن امتلك المائة مليون دولار الأولى في حياته أجاب بأنّ على المرء أن لا يفكّر بالتبرّع بشيء من ماله قبل أن يحصل على المليار الأول ! غير أن هناك مرحلة مفصلية بدأت في حياة غيتس عندما قرّر اتخاذ تحويلة جوهرية في حياته : ترك شركة مايكروسوفت وانغمس في العمل الخيري العالمي عبر مؤسسة ( بل وميليندا غيتس ) الخيرية .
كنتُ - وأنا أتابع الحوار مع ميليندا غيتس على موقع نتفلكس - أقلّبُ في ذهني صوراً وموضوعات شتى تراوحت بين السياسة والإقتصاد والسايكولوجيا البشرية ، وتجلت في تساؤلات لطالما شُغلتُ بها منذ عقود ، مثل : كيف تؤثر طريقة الحصول على المال في تشكيل ذهنية الفرد وطريقة مقاربته الفلسفية لذاته ولسواه من البشر؟ وهل نحن إيثاريون بالفطرة تبعاً لبعض النظريات في البيولوجيا التطورية التي ترى أن البشر يمتلكون جيناتٍ إيثارية هي - في جوهرها - بعض الوسائل التي تمكّنُ الفرد من الإستمرار في الوجود ؟
تلك أسئلة جوهرية أظنّ أنّ ميليندا غيتس ساعدتنا في تلمّس إجابات مقبولة لبعضها في الأقلّ .