ستار كاووش
تعرفت عليه في ظهيرة بغدادية دافئة بغاليري حوار أثناء زيارتي السابقة للعراق، كان قد أخذ مكانه خلف ذات الطاولة التي أجلس قربها، وهناك تحدثنا صحبة مجموعة من الأصدقاء الفنانين.
بدا لي شخصاً ودوداً، هادئاً، وكلماته التي يقولها على مهل كانت مريحة كهيئته. وبمظهره البسيط لم يعطني انطباعاً بإنغماسه بالعمل فقط، بل منحني شعوراً بأنه قد توقف قبل لحظات عن النحت وسيعود لمشغله بعد استراحة قصيرة حيث تنتظره منحوتة جديدة. هكذا كانت ولا تزال الصورة التي كَوَّنتُها عن النحات رضا فرحان الذي يقيم معرضه الآن في (دكانة رؤيا) وسط شارع المتنبي في بغداد.
يمضي هذا النحات يومه مع النحت حيث تنشغل يداه بتحسس الخامات المختلفة والتعرف على مزاياها وما تعطيه من نتائج، بل يمكنني القول بأنه هو ذاته يعيش داخل أعماله، تلك الأعمال التي تشبهه تماماً، حيث أن كل ما يخرج من بين يديه يتحول الى مرآة تعكس صورته ورؤيته الفنية، وذلك يؤكد أن الفنان الحقيقي يُحَوِّلُ أعماله الى دفتر مذكراته الذي يدون فيه أيامه. من هنا نعرف أن رضا فرحان لا يستطيع العيش خارج عالم النحت، ولا يمكنه الابتعاد عن بهجة ما يحصل عليه صحبة الطين والبرونز والخشب وغيرها من المواد المتاحة، بل حتى لو قام بإلتقاط أشياء جاهزة من هنا وهناك، فأنه يفرغها من محتواها الأصلي ويُخليها من الغرض الذي صُنِعَتْ من اجله، ليحولها في النهاية الى مفردات فنية جديدة ومبتكرة، فنرى شخصيته الفنية وحلوله الخاصة على كل ما يقع بين يديه. وكلما وضع لمسته على شيء حتى وإن كان مهملاً يصبح هذا الشيء جزءاً من عالمه الذي بناه بالمثابرة والعمل والمحاولات التي لا تتوقف، وهنا يذكرني بالفنان صالح القره غولي الذي شاهدته ذات مرة يدخل الى أكاديمية الفنون حاملاً معه قطعة من سلك حديدي عثر عليه في الجوار، حيث كان استاذنا الراحل لا يكف عن إلتقاط الكثير من الأشياء الصغيرة التي تصادفه بين البقايا المهملة، سواء كان ذلك في زوايا أروقة قاعات النحت أو في ممرات الاكاديمية وحتى خارجها، ولا فرق لديه إن كان ما يلتقطه سلكاً نحاسياً قديماً أو قطعة خشب غريبة، جزء من حبل مهمل أو حتى مسمار، ليوظف هذه الأشياء بعد ذلك في أعماله بدراية العارف والأستاذ المبتكر. وهذا ما يقوم به أيضاً رضا فرحان ويوظفه بطرق تشير الى موهبة عالية بعد أن يستثمر عينه المدربة التي تحمل الكثير من الإبداع وروح المغامرة والاكتشاف.
لقد استخدم رضا فرحان في أعمال هذا المعرض قوالب صنع الكعك الخشبية، فربطها ورَكَّبَها مع بعضها وأضاف لها الملاعق والأقفال وبعض الأسلاك والمفردات الأخرى ليرينا عوالمه المبهمة الغامضة المليئة بأطياف العشاق أو أشكال الخيول أو المراكب، وهيئات أخرى مليئة بالأسرار والرهبة والشجن، أشكال تشبه التعاويذ والطلاسم بلونها البني الداكن وما خلفته عليها بعض الحروق، كذلك ما أبقاه عليها إثر الاستخدام اليومي وما تركه فوقها من محوٍ وحزوز.
وَظَّفَ رضا فرحان هذه القوالب الخشبية الصغيرة بطريقة مدهشة، وهي ذات القوالب التي نراها كل يوم تقريباً بل نتحسسها ونحن نصنع الكعك، ولكننا لم ننتبه لطاقتها الجمالية الكامنة ولم يفكر احد بتركيبها مع بعضها ويقدمها بلغة فنية عالية كما فعل هذا الفنان. وحتى من الناحية التقنية قام رضا بقلب المعادلة المتعارف عليها، فهو لم يكتفِ هنا بالإبتعاد عن صبِ أعماله في قوالب النحت كما هو متعارف عليه، بل كانت القوالب ذاتها هي الأعمال الاساسية التي قدمها كأعمال فنية باهرة، وفوق ذلك، لم تكن هذه القوالب سوى قوالب الكعك التي لم يدرك قيمتها أحد من قبل، ولم تكن لها استخدامات فنية أصلاً! هكذا التقط العادي والمستعمل والعابر والبسيط ليقدم لنا فناً باهراً وثابتاً ومؤثراً وجديداً. فيالعظمة الالتقاطة هنا ويالسحر البساطة وجمال الاستخدام.
كثير من الفنانين في العالم استخدموا أشياء جاهزة ومستعملة لتقديم أعمال فنية جميلة وجديدة، فتحوا من خلالها الكثير من الآفاق، وها هو رضا فرحان يضيف خطوة جديدة لهؤلاء المبدعين وهو يمضي بهذه الأعمال الصغيرة بحجومها والكبيرة في تأثيرها ويثبت أن أفق النحت مازال مليئاً بالابتكارات، وأن روح الإبداع مازالت قائمة.
تحية لرضا فرحان وهو يمدُّ يده نحو نافذة النحت المواربة ويفتحها على مهل، فيدخل ضوء موهبته متوهجاً، ساطعاً، جميلاً، وهو يحمل بين ثناياه أعمالاً ستظل في الذاكرة .