طالب عبد العزيز
كانت الطريقُ بين بغداد وكركوك قديمةً وضيقةً، وفيها من الحفر والتخسفات ما يكفي للضجر والتأفف، لكنَّ السليمانية، المدينة الجبلية، الجميلة مقصداً يستحق، والإقامة في فندق قرب السوق، على جادة شارعها الأجمل(مولوي) أمرٌ يوحي بشئٍ آخر للجمال، لمن جاءها من الجنوب الخرب،
الذي عبثت به أحزاب الطوائف ومليشياتُها، لمن تسيّد شيوخ القبائل على السلطة فيه وانتزعوا مدنيته التي كانت، وجعلوا الحياة فيه مجازفة، ومن العيش فيه تحدٍ، لمن تأنق وتيقن بانَّ الجمال وما تعنيه الكلمة غاية كبرى.
لم تقم حكومة السليمانية المحلية بفعل عبقري كبير، أبداً، فبناء فندق نظيف ومول كبير، وسوق شعبي، وعمارة شاهقة، ومتنزه جميل لا تحتاج الى عقل استثنائي، كما أن زراعة ألف شجرة زعرور في الجزرات الوسطية، وتزيين الرصيف بمقرنص أحمر، لا يُسمح بالتجاوز عليه، ولا يتفتت بأول زخة مطر هو مما تفعله الحكومات المحلية، في الدول الفقيرة، وفي كثير من مدن العالم، وهذا بشكل عام كل ما قامت به الحكومات المحلية، في الشمال العراقي، وقد رأينا صوراً تحاكي ذلك في المدن المحررة من داعش، وكل ذلك لا يعني عدم وجود شبهات للفساد هناك، أبداً فالفساد آفة في العالم كله، لكنَّ الحدود الدنيا للأمانة مع التخصيصات البسيطة كانت قد حوّلت أقذر وأوسخ المدن وأكثرها تخلفاً الى شبه جنائن على الأرض.
هل أقول بأن الانسان هناك نظيفٌ، أو هو أكثر عناية بالأشياء التي تحيطه! نعم، هو كذلك، ومن كان جندياً في الحرب مع إيران، وشاركه في خندقه عدد من الجنود الأكراد سيقول بذلك أيضاً، ولا أظنُّ بأن المسؤول الكردي هناك، كان أقل عناية من المواطن البسيط، فقد لمست ذلك في الشارع والسوق والمقهى والمطعم، أقول ذلك وأنا اعاينُ الفارق بين غالبية المسؤولين في الجنوب، المنحدرين من تجمعات وعشوائيات المدن والأحياء، والذين لم يغيروا من بؤس الأحياء التي جاؤوا منها شيئاً، وذهبوا يعبّون ما وقع بين أيديهم من المال، والأرض، والمُلك العام، والذي يكشف عن كراهية هؤلاء لمدنهم، وخيانتهم للأمانة التي كلفوا برعايتها. كان صدام حسين وبحسب تقارير محلية ينفق بين 10-20% من الموازنة للخدمات والبناء والعيش لا أكثر، وينفق الباقي على الجيش والتسليح ومشاريعه الخاصة.
لن أتحدث عن مظاهر الحاجة والعوز عند الأسر الفقيرة، في مدن الشمال العراقي، فهذا مما لا يشك أحد فيه، ولا عن المشهد السياسي فهو واحد في العراق كله، لكنَّ المواطن البسيط الذي يسكن القرى والقصبات النائية، والذي يدخل مدينة السيلمانية يشعر بأنه إنما يأتي مدينة نظيفة، وجميلة، ويتمتع بخدمات أكثر، فالشارع في قبضة شرطي المرور، وهو محترم في وظيفته، والرصيف محميٌّ، غير متجاوز عليه، والمطعم مراقَب من الدوائر الصحية، والأنسان بشكل عام لا يقهر من حزب مسلح، ولا يجار عليه من عشيرة كبيرة، والموظف في الدائرة أمين على ما توظف من أجله، والأرض المحيطة بالمدينة ومصالح الحكومة والمنشآت العامة ملكه، لن يتجاوز عليها أحد، فالحكومة تمسك بقبضتها على مصالح مواطنيها.
يجمع سكان الجنوب(الشيعية) على أن خراب مدنهم وتردي أوضاعهم، إنما نتيجة واضحة لفساد أحزابها الدينية التي تسلطت عليهم ونهبت ثرواتهم وتركتهم عرضة لبعضهم، ينهش هذا لحم ذاك، ولا يعنيهم من أمر البلاد إلا ما تساقط من المال بين أيديهم.