ستار كاووش
طالما بهرتني لوحات الفنانة بتول الفكيكي، بعوالمها الساحرة والغرائبية التي تأخذني بعيداً نحو مناخات مليئة بالغموض، يغمرها العشق والمحبة. وكما تحمل هذه اللوحات الكثير من الدراما، فهي تمتلئ بمسرات عديدة يخلقها اللون والمعالجات الأخّاذة والتكوينات الفريدة، ويعلوها مزيج من الخشوع والعاطفة، النسك والانسجام، والتعبد وسط الجمال، حيث جواهر الضوء تلتمع هنا وتتوهج هناك.
إنها ليست لوحات، بل لقى نفيسة وكنوز تستقر على القماشات، صنعتها أصابع ماهرة وروح زاخرة بكل ما هو صافٍ ونبيل.
مَرِروا عيونكم على قماشاتها وسترون كيف يتحول النور الى رفعة، وكيف تصير الظلمة تواشج بين المحبين، وانظروا الى شخصياتها التي تخرج من العتمة لتأخذ وضعيات تشبه التماثيل العراقية القديمة، بل وكأن ذات التماثيل العظيمة الموغلة في القدم قد تسللت سراً تحت جنح الظلام واستقرت على سطوح لوحاتها، كي تخبرنا أن الفن في بلاد الرافدين مازال ينبض بالإبداع ويمضي بالجمال قدماً الى ما لا نهاية، وهكذا تستعير أشكالاً عميقة في عراقيتها، لتعيد بناء مشهد معاصر، غامض لكنه مهيب ومبهر.
ينبثق الضوء في لوحات بتول الفكيكي من خلال طبقات اللون التي تضعها بدراية وحكمة وحساسية تفوق التصور، حساسية تجعل العشاق الذين ترسمهم يختبئون بحياءٍ خلف بعضهم أو يلوذون بجوانب اللوحة وهم يتسامون معاً، حيث اللون الأصفر يخترق الظلمة وينثر عطره ورنينه الذي يشبه الذهب، فتتعطر الأجساد ببعضها وتفصح عن ما فيه الكفاية، في حين تستقر فوق عيون الشخصيات غلالات معتمة تزيد من غموض المشهد. لا يمكن أن نفصل لوحات بتول الفكيكي عن مرجعياتها العراقية ولا عن مناخاتها الدرامية، وهي تبتعد أحياناً عن التشخيص وتقترب من التجريد، لتعود مرة أخرى وبكل رشاقة للتشخيص الذي يعطي لأعمالها رمزية كبيرة وقوة تعبيرية مؤثرة. كل ذلك يظهر وسط بقع من الضوء ومساحات من العتمة، لنرى في النهاية كيف يكسب الكانفاس وهو يتحول الى كنوز وتعاويذ عشق ملونة.
كل شيء تمسكه بتول الفكيكي يغدو حرزاً جمالياً وقطعة فنية نفيسة، وكل سطح تمرر عليه فرشاتها يصير جزءً من حكاياتها الملونة التي تأتي من مكان سري وبعيد، هذه الحكايات التي تقدمها بتقنية متقدمة وفريدة وشخصية، حتى نظن انها تعيش بين لوحاتها وداخل عالمها الذي بنته بالاجتهاد والانتماء الى الرسم، وهذا هو جوهر ما يسعى اليه الفنان الحقيقي، فهي لا تعلن تهويمات بإسم الحداثة ولا ترسم ألغازاً لا يفهمها أحد، بل تمسك فرشاتها وتنغمر بالرسم لتصبح هي واللون شيئاً واحداً يقترب من التصوف أو التحليق في عوالم خيالية فيها الكثير من الطمأنينة والتناغم الروحي.
تعرفتُ على أعمال بتول الفكيكي منذ دراستي للرسم في أكاديمية الفنون، وقتَ كانت هي -ولاتزال- احدى نجمات إبداعنا الباهرات، وبقيتُ سنوات طويلة ألتقي بإبداعها وأتأمل لوحاتها وعوالمها الغرائبية الجميلة، لألتقيها في افتتاح آخر معرض لي في بغداد، قاعة الرواق ١٩٩٣ قبل سفري من العراق، حين حَضَرَتْ صحبة أستاذنا الكبير جبرا إبراهيم جبرا، وهناك تحدثنا بتول وأنا حول لوحات معرضي وكيف نتناول في لوحاتنا موضوع العلاقة بين المرأة والرجل، مع اختلاف تقنياتنا ومعالجاتنا لذات الموضوع.
ظلت هذه المرأة الجميلة المشرقة، مخلصة للرسم واللون وكل ما هو جميل، لتكون إحدى شمعات العراق وواحدة من علاماته التشكيلية المهمة، بل لا أجافي الحقيقة حين أقول أن بتول الفكيكي أهم رسامة عراقية وقعت عيني على لوحاتها. تحية لهذه المرأة التي قبل أن تمنحنا أعمالاً جميلة، أعطتنا درساً في معنى الانغماس في الفن، وعلمتنا فحوى أن تكونَ رسامة عالية المكانة وهي تصحبنا نحو قوة الجمال، وتهدينا عطاياها وشواهدها الملونة بعد كل هذه المعارض وهذه اللوحات وهذا الحضور الذي سيبقى في وجداننا. بتول الفكيكي نخلة عراقية عذوقها لوحات وثمرها عوالم مليئة بالمحبة والضوء. وإن نظرنا الى الفن العراقي كقلادة ثمينة باهرة الجمال، فأن بتول الفكيكي ستبقى هي الياقوتة الأجمل في هذه القلادة.