علي رياح
كان الصديق المعلق الشهير علي سعيد الكعبي يروي لي ، في مناسبات متعددة، الكثير عن تعلقه بكرة القدم وعن عشقه المبكر للتعليق على أحداثها .
حين كان الكالتشيو في إيطاليا يتوهّج بتوافد نجوم الكرة العالمية مطلع العقد الثمانيني ، بدأ ارتباط الكعبي بأجواء هذه المسابقة بالذات وكان حبه للسيدة العجوز (اليوفي) ينمو بسرعة شديدة ، لكن هذا لم يكن يعنيني كثيراً وأنا المعروف بميلي إلى (الميلان) .. ما استوقفني وأعجبني على نحو كبير أن الكعبي أيام الصبا تلك وحين كان يضع قدماً في نادي العين لاعباً ناشئاً ، كان يحرص على شراء مجلات كرة القدم الإيطالية بشكل منتظم ، والأصح أنه كان يوصي أصدقائه بجمع كل هذه الإصدارات وجلبها إليه تلبية لولعه الشديد .. وكان لابد من سؤال الكعبي عمّا يمكن أن يرجوه من جمع كل هذا الركام من المجلات والصحف وهو لا يتقن اللغة الإيطالية ، بل إنه يتقنها كما كان المتنبي ضليعاً في صناعة الصواريخ!
هكذا كنت أقول له ، وكان رده جاهزاً هو الآخر .. (أبو فيصل) ومن فرط حبه لمجريات الكالتشيو يوم كان نقطة اهتمام وسفر وأمل النجوم العالميين ، كان يستعين بصديق له يجيد اللغة الإيطالية بطلاقة ، وكان كثير التردّد عليه كي يترجم له كثيراً من المقالات والتعليقات وهو ما يلبي شغف الصبي الصغير الذي كان يستبدّ به حب الأندية هناك وأهمها يوفنتوس!
استعدتُ قبل أيام هذه الأفكار التي كان علي سعيد الكعبي يتحدث بها إلي بتدفق ، وأنا أتابع لقاء رائعاً معه كشف فيه كثيراً من الخفايا والخبايا ، وقد أعجبني الكعبي حين تحدث عن البدايات في التعليق .. كان لاعبا في فريق نادي العين ، لم يكن نجما في الفريق ، وكان كثيراً ما يجلس على دكة البدلاء وهو في مطلع المشوار مع الفريق ، لكن زملاءه على الدكة ومعهم البرازيلي زيماريو مدرب الفريق يلاحظون أن الكعبي كان خلال المباريات يتحدث مع نفسه بصوت مسموع لهم جميعاً .. كان زيماريو (أصبح فيما بعد مدرب منتخبنا الثاني في خليجي 1986) يتصور أن لاعبه الناشئ يبدي التذمر أو الشكوى لأنه جليس دكة البدلاء ، فيما كان زملاؤه اللاعبون يدركون أن الكعبي يعلق على المباراة ويصف ما يجري أمامه ، وكان ينفعل حين يحتدم الموقف .. ولم يكن المدرب يجد خياراً غير الزجّ به في المباراة كي يتخلص من (تذمره) ..هكذا كان المدرب يتصور واهما!
هذه حكاية لها معانٍ وظلال وإيحاءات كثيرة ، فالكعبي – كما هو شأن كبار المعلقين في كل مكان – كان مدفوعاً بالهواية والرغبة والموهبة ، ولم يدخل هذا الميدان بكارت توصية ، ولهذا ترك ميدان اللعب مبكراً وهو يقول في دخيلة نفسه (لن أحقق ذاتي في اللعب ، فليكن التعليق ميداني الذي سأمنحه وقتي واهتمامي وتطلعاتي للمستقبل)!
وهكذا نجح الكعبي معلـّـقاً ولم ينجح في تجربة اللعب البتراء .. اختار أن يكون مستنداً إلى الكثير من العوامل والمقومات التي تجعل منه معلقاً ناجحاً في بلاده ، ثم ليصبح واحداً من أبرز المعلقين الخليجيين والعرب ، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بمعرفته بكل أغوار الدوري الإيطالي العتيد!
تجربة الكعبي ومن على شاكلته تحيلنا إلى الكثير من النماذج التعليقية التي نسمعها ونفتقد فيها (الشخصية) ، ونرى بدلاً من ذلك تقليداً جارفاً يمسخ الاستقلالية في الصوت ونبراته وتحولاته خلال المباراة .. أما المشكلة الكبيرة التي يورط فيها بعض مبتدئي التعليق أنفسهم فهي أنهم يصرّون على الاستعانة باللغة العربية الفصحى ، فرأينا ما يجب أن يُرفع منصوباً ، والمفعول به مرفوعاً ، فيما تنعدم لديهم قيمة حروف الجر!
رأيي أن يتخلى مثل هؤلاء عن توريط أنفسهم ، فهم لا يصلحون للأمر .. وبدلاً من ذلك اتمنى أن يميلوا إلى (اللغة) التي نسميها الثالثة وهي وسيطة بين اللهجة العامية واللغة الفصحى .. هذا أجدى وأنفع ويبعدهم عن التورط في النحو والصرف والقواعد وهم ليسوا أهلاً لها!