علي حسين
لا أعرف عدد المرات التي تصفحت فيها موسوعة المؤرخ إدوارد غيبون صعود وسقوط الإمبراطورية الرومانية، قارئًا ومتمعنًا في الدروس والعبر التي تقدمها لنا تجارب الشعوب.. وقد اكتشفت معنى أن نتعلم الدرس من الأمم التي توهمت أن الميزان يمكن أن يكون مقياسًا لكل شيء إلا العدل..
يخبرنا غيبون كيف صنع كبار القادة الإمبراطورية الرومانية، فما أن يخرج قائد في حملة حتى تشعر بأن المعركة قد حسمت، فلا قوة مثل قوتهم ولا فرسان مثل جنودهم، ولكن كلما عاد قائد منتصر وهرعت الناس لاستقباله تقدم الجموع الخطيب والفيلسوف سينيكا ليقول له بصوت واضح: تذكّر أنك بشر، إلا أن موسوليني وبعد عقود ينسى أنه بشر، ويتذكر فقط أن أجداده الرومان كانوا يحكمون العالم، ورأى أن الشعوب لا تستحق الحرية وإنما القبضة الحديدية.
تسقط الإمبراطوريات حين يختلّ فيها ميزان العدالة، فالقانون في الأمم المتحضرة هو عنوان التوازن في العلاقة بين الحاكم والناس، فالـمالك الدائم للبلاد هو المواطن، أما المسؤول فهو صاحب وظيفة ذات مسؤولية محددة وواضحة هي: الحماية من الخلل في كل أبواب العمل، في العدل أولًا، وفي معيشة الناس ثانيًا، لأنّ بهذين العدلين وحدهما تستقيم العلاقة بين المسؤول والمواطن.
بالأيام الماضية وأنا أقرأ المعلقات حول عودة التحالف الوطني الى الواجهة أعدت تقليب صفحات موسوعة غيبون عن اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، لأجد أن المؤلف ظل طوال كتابته لهذا السفر الكبير مشغولًا بجرثومة الفشل باعتبارها السبب في تساقط العواصم، حيث يخبرنا أن الإمبراطوربة الرومانية سقطت حين أباح المسؤول لنفسه عمل كل شيء باسم القانون، وعندما أصرّ على استعباد الناس وقهرهم تحت شعارات الطائفية والقومية.. تسقط الدول حين يفتح المسؤول أبواب التنكيل والتهميش والإقصاء ، ويغلق نوافذ التسامح والمحبة والعفو، وتعمر البلدان حين يؤمن مسؤوليها بأن الحرية حق، والأمان حق، حين يؤمن المسؤول بأنه خادم للناس، عادل معهم أكثر من عدله لأقاربه وأصحابه.
كان العراقيون ينتظرون نهاية حقبة الدكتاتورية، كي يخرجوا إلى النور، فقد أرهقتهم مدن الحروب والمقابر الجماعية، وبلغت أثمان الاستبداد مئات الآلاف من الضحايا وشعب يعيش معظمه تحت مستوى الفقر، فإذا بهم يجدون أن الوطن يخطف من قبل ساسة مصرّين على أنهم الأوصياء على أحوال الأمة والعباد.
لا يوجد أعظم من قادة يرسخون مبادئ المصالحة والحوار بديلًا عن لغة الثأر والانتقام، الناس بحاجة إلى مسؤول يراعي شؤونهم وليس إلى محارب يقف على أبواب روما، إلى رجال فوق التحزب والطائفية وشهوات الانتقام، وقديمًا علّمنا عنترة الدرس جيدًا:
لا يحْمِلُ الحِــــقْدَ مَنْ تَعْــــــلُو بِهِ الـــــرُّتَبُ... ولا يـــــــنالُ العــــلى من طبعـهُ الغـــــضبُ
يحيلنا المؤرخ أريك هوبزباوم إلى مقولة سينيكا الشهيرة فيكتب ": "يحيط الظلام والخوف المدن والطرقات حين ينسى الحكام أنهم بشر من لحم ودم".