لطفية الدليمي
حدّثني صديق بغدادي أنّ صاحباً له كان يدير مكتبة وقرطاسية في شارع الصناعة ببغداد ، إعتاد كلّ بضعة أيام أن ينادي عامل النظافة المكلّف بتنظيف الرصيف وجمع القمامة في الشارع الذي تطل عليه مكتبته ، ثمّ يشبعه تقريعاً وتعنيفاً وهو يصرخ في وجهه بأعلى مايبلغه صوته .
وقد حدث الأمر يوما بحضور هذا الصديق ، ويبدو أنّ مالك المكتبة تمادى في الزعيق وبلغ حداً دفع صديقه إلى مساءلته عن سبب صراخه وغضبه وبخاصة أنّ عامل النظافة لم يرتكب جرما ولا أخطأ بفعلٍ يستوجب التقريع ؛ فضحك مالك المكتبة وقال بنوع من الزهو والتباهي : " دعني أصْدِقْك القول ياصديقي . ليس عامل النظافة هو المقصود بالتعنيف والصراخ ، إنما هو وسيلة أستخدمها كرسالة إلى أصحاب المحلات القريبة في الشارع أبلغهم فيها أن لي صوتا عاليا ، وأن لي القدرة على مجابهة الجميع وتعنيفهم، ولن أتردّد في الخصومة والشجار معهم متى ماوجدت سببا يوجب الشجار والرد الزاعق . باختصار : صوتي هو علامة دالة على موجوديتي في المكان و بأنني شخص مؤثر فيه وليس مجرد وجود عابر أو ظل مستكين على الأرض ."
كثيرون بيننا يشبهون مالك المكتبة هذا . إنهم يرون لسانهم علامة مميزة على وجودهم المؤثر ، وما هذا الوجود الموهوم من وجهة نظرهم سوى أن يحسب لهم الآخرون حساباً ولايعدّونهم سقط متاع على مسالك الحياة المتشعبة .
هذا الأنموذج الإجتماعي شائع في مجتمعنا ، ونعلم أنّ الكائن البشري - بصرف النظر عن كونه رجلا أو إمرأة - غالباً مايشعرُ بانكسار روحي عميق وخذلان نفسي واضح ينعكس في هيئة كائن مهيض الجناح ، خفيض الصوت ، مثلوم الإرادة متى ماعجز عن امتلاك مكانة ما أو إستقلالية مالية تحفظ كرامته ؛ لكنما هناك حالات ناشزة من بين هؤلاء نراهم ذوي ألسن طويلة وأصوات زاعقة وأرواح مأزومة متحفزة للمنازلة والقتال ، وهم في حقيقتهم ليسوا سوى كائنات هزيلة تعرفُ موارد الضعف والخذلان لديها فلايسعها والحالة هذه سوى اللجوء إلى آلية دفاعية إستباقية بالتحصّن وراء ألسنة طويلة وحناجر متورّمة تفضح أزماتهم .
هي مقايسة تبدو صحيحة ونموذجية : كلّما زادت مأزومية الإنسان وانخفضت مناسيب تحصيله المعرفي وتدريبه العملي فإنه يلجأ أكثر فأكثر إلى التحصّن وراء دفاعات لسانه الطويل الذي يتفنّن في تدريبه على أسوأ القول وأقذعه ، وكأنه يستبدل التدريب المهني والمعرفي لعقله بأفانين التطاول على الآخرين مستعيناً بصوته الزاعق وكلامه الجارح.
هل العكس صحيح ؟ أظنّ أنّ الجواب هو نعم . نقرأ في السيرة الذاتية للفيزيائي العبقري بول ديراك أنه قلّما كان يتحدّث بأكثر من بضع كلمات جواباً على أي سؤال حتى بلغ الأمر بأصدقائه أن يبتدعوا وحدة فيزيائية أسموها ديراك وتعني كلمة / ساعة ! ( أي أن 5 ديراك مثلاً تعني خمس كلمات في الساعة ) . الحقّ أنّ المبدعين المنشغلين بأفكارهم وتأملاتهم قلّما يتحدّثون ، وهم ميّالون لنمط أو آخر من العزلة ، وأظنهم يجدون لذتهم في محادثة أنفسهم بأكثر مما يفعلون مع الآخرين ، وتعجّ كتب علم النفس الإبداعي بالكثير من المقاربات الخاصة بهذه الجزئية من حياة المبدعين .
اللسان الطويل قرين نفس مأزومة ، ولو دقّقنا في أصوات بعض الذين صاروا ضيوفاً دائمين ثقال الظل على بعض القنوات التلفازية لعرفنا طبيعة العقول والأنفس المريضة التي قادتنا إلى مستنقع الرثاثة العراقية الذي نعوم فيه اليوم.