ستار كاووش
يا لهذه المفردة الساحرة، بإنحناءتها الحانية وما تحمله من معانٍ أخاذة وجاذبية خاصة ومتفردة، حيث تغطي بهيئتها التي تشبه نصف برتقالة ناضجة أو نصف شمس، العشاق والمحبين الذين يجتمعون غالباً تحتها. أدخلها الفنانون كثيراً في لوحاتهم، وكتب عنها الشعراء قصائدهم، ويكاد لا يخلو فيلم رومانسي منها، إضافة الى ذلك، هي تتوفر في كل بيت ويحتاجها الجميع تقريباً.
أتذكرُ حين كنت أوصل حبيبتي من أكاديمية الفنون الى القسم الداخلي في الباب المعظم ببغداد مشياً على الأقدام، وكانت مظلتي القديمة هي التي تجمعنا حين يكون الجو ممطراً، حتى صارت عذري الجميل الذي يجعلني اقترب منها اكثر وأكثر، كانت سقفنا الصغير، بل بيتنا الحقيقي. أهناك أجمل من اقتراب حبيبين من بعضهما وهما يمسكان المظلة معاً، يقترب الوجهان وتتداخل الملامح، في حين تطوقهما المظلة من الأعلى مثل شجرة، حتى يخيل لك بأنهما يحملان هلالاً فوق رأسيهما، هلال يقي من المطر ويحمي من الشمس ويهذب الروح والعاطفة.
إضافة الى جمال شكلها وتناسب إيقاع هيئتها التي تمنح إحساساً بالدفء والحماية، فأنا لا أنظر الى المظلة كحاجة عابرة تقينا المطر أو الشمس فقط، بل أنظر إليها كمفردة رومانسية باهرة، حتى أني أتيه معها أحياناً، وأستحضر نساء القرن التاسع عشر حين كنَّ يتعاملن معها كجزء مهم من الاكسسوارات وزينة مكملة للجمال والمظهر.
أتذكرُ ذهابي الى متحف الفنان ديلاكروا في باريس وكيف هطل المطر بشكل كثيف أثناء الطريق، مع ذلك انتصبت مظلتي الصغيرة مثل شخص محب وهي تحميني من وابل المطر، كان الناس يهرولون بكل الاتجاهات وهم يرفعون مظلاتهم، وحين وصلتُ المتحف كانت هناك امرأة باريسية جميلة شعرتُ كأنها تَمَثَّلَتْ روح مظلتي الصغيرة، وهي تنتظرنا نحن زائرو المتحف عند المدخل وتمنح كل واحد منا كيس بلاستيكي يحفظ فيه مظلته المبللة ويدخل المتحف. وفي متحف ليوناردو دافينشي بمدينة فلورنسا وقفتُ أتأمل المظلات التي ابتكرها الفنان العظيم دافينشي قبل خمسمائة سنة، بأشكالها المختلفة وحجومها الغريبة، ومن ضمنها مظلات تشبه الأجنحة للهبوط من أماكن مرتفعة. وفي مدينة برشلونة دخلت ذات مرة من جهة تمثال كولومبس الى شارع لا رامبلا (وهو أشهر شارع في برشلونة واسمه مشتق من كلمة رملة العربية) وأنا أتطلع الى طرازه الجميل الواسع وهناك في منتصف الشارع استوقفتني بناية قديمة صمم واجهتها الفنان العظيم خوان ميرو، حيث وضع مجموعة كبيرة من المظلات الشمسية التي احتلت الواجهة بتكويناتها المذهلة التي تشبه الزهور.
لم استخدم المظلة كثيراً في العراق، لكن في هولندا وأوروبا بشكل عام فأنا غالباً ما أحملها في حقيبتي لأن المناخ ممطر دائماً ولا تعرف في أية لحظة يداهمك المطر، وكما يقول الروس في أحد اقوالهم الشائعة حول المناخ المتغير (الجو اليوم متقلب، كأنه مزاج فتاة). لهذا لم تكد تمضي بضعة أيام دون أن استخدم المظلة، حتى أن مرسمي الملاصق للبيت أعبر الطريق له مع مظلة في أحيان كثيرة بسبب رشقات المطر التي لا تتوقف، أما الكوة الزجاجية التي في سقف المرسم، فتتعالى عليها النقرات حين يأتي هذا الزائر المائي وهو ينثر شآبيبه، حتى أني أخطأت أكثر من مرة معتقداً أن بعض النوارس تتسلى كالعادة فوق سطح المرسم.
سافرت ذات مرة الى الكويت للمشاركة في بينالي الرسم الذي أقيم في العاصمة، وبما أننا اتفقنا على رسم لوحاتنا هناك، لذا قررتُ أن أرسم ثلاثة تخطيطات وأنا على متن الطائرة تمهيداً لرسم لوحة كبيرة هناك، وفعلاً اخترتُ واحداً من تلك التخطيطات ونفذته على اللوحة الكبيرة، وكان الموضوع عاشقان يتداخلان، بل يذوبان مع بعضهما وهما يمسكان مظلة كبيرة، وعرضت اللوحة في المعرض الذي ضم ستين فناناً تقريباً، وحصلت على الجائزة الذهبية للبينالي. وهكذا، إضافة الى الرومانسية واللحظات الدافئة التي أعطتها لي المظلة، كذلك ما منحتني إياه من موضوع محبب للرسم، فها هي تمنحني فوق كل ذلك... جائزة فنية.