عدنان حسين أحمد
ينطلق المخرج الإيراني حبيب باوي ساجد في فيلمه الروائي الطويل الأول "سامي" من مشكلة ذاتية أو أُسَرَيّة إلى فضاء موضوعي عام يخصّ الشعب الأحوازي برمته.
فعلى الرغم من واقعية الفيلم الصارمة إلاّ أنّ لغتة المجازية سرعان ما تنكشف وتتبسّط لتأخذ صيغ الجُمل والعبارات الصريحة التي تقول لك إن سامي كاروني، الشخصية الرئيسة في هذا الفيلم، متشبثٌ بأرضه، وببيته القروي، ووطنه الذي وُلد وترعرع فيه، ولن يفارقه حتى في رقدته الأبدية لأنه سوف يُدفَن في مَسقط رأسه، وعلى مقربة من ملاعب طفولته وصباه. لا تقتصر الثيمة الرئيسية في فيلم "سامي" على حُب الوطن، والتعلّق به، وإنما تتعداها إلى الحُب الروحي لزوجته دلال التي قُتلت بانفجار لغم يوم كانت حاملاً بطفلتها الثانية سُعاد التي بُترت ساقها وهي في رحم أمها، وظلت باقية على قيد الحياة رغم هول المصاب. أمّا الثيمة الثالثة فلا تتكشّف، رغم تواجدها بين طيّات القصة السينمائية، إلاّ في اللحظات الأخيرة التي يُقدّم فيها المُخرج عدداً من البيانات والمقتبسات التي تتعلّق بحقول الألغام ودورها الكارثي في إلحاق الأذى بالناس وخاصة المزاعين والأطفال. فما إن تضع الحروب أوزارها حتى تبدأ حروب الألغام التي تتفجّر واحدة إثر الأخرى في البلدان المُبتلاة، ولا يسكت دوّيها حتى بعد عشرات السنين.
حين كتب حبيب باوي سيناريو هذا الفيلم لم يلجأ إلى التزويق اللغوي والمُحسِّنات البديعية لأنه وجد ضالته المنشودة في صدق الأحداث التي ينقلها على الشاشة، كما اكتفى بأداء الشخصيات التي لم يكن بينها ممثل محترف لكن الطاقم الفني كان على درجة عالية من الحِرَفية والإتقان المُرهَف بحيث نقل عُذرية الثيمة إلى الشاشة من دون فذلكات فنيّة قد تشوّه جمال الأفكار الأصيلة التي تنبثق مثل الأزهار الملوّنة لتطرّز مروج البراري الخضراء.
لو تجاوزنا اللقطة الافتتاحية العامة التي يتنقّل بها سامي كاروني بين القرية والمدينة أو "السَلَف والديرة" بتعبيره الدارج وانتقلنا إلى المشهد الأول وتمعّنا في الميزانسين، أي في عملية بناء وتنسيق محتويات اللقطة أو المشهد السينمائي لوجدنا أنّ تركيز المُخرج قد انصبّ على صانع الأرجل الاصطناعية الذي لم نرَه لكنه جعلنا نتأمل في تلك الساق المعدنية التي ستعوّض ساقًا مبتورة فُقدت في انفجار لغم أو حادث سير أو خوض معركة وما إلى ذلك. غير أنّ المُخرج في هذه اللقطة سيضع إصبعه على الجرح، ويُدخلنا من هذه العتبة البصرية التي جعلتهُ ينأى بنفسه عن الشعارات الوطنية الرّنانة، ويكتفي بملامسة مشاعرنا الإنسانية العميقة التي تهتزّ أمام الأحداث المُفجعة وتتأثر بها أيّما تأثير. فهذه الساق الاصطناعية لابد من شرائها كي تستعملها سُعاد ذات يوم،فهي أشبه ببندقية تشيخوف المعلّقة على الجدار، ولابد أن يستعملها أحدهم لنشمُّ رائحة البارود في خاتمة المطاف.
يندفع النسقان السرديان في آنٍ واحد حيث يكشف الأول قصة الجانب الأُسَري ويأخذ الحيّز الأكبر من الفيلم بينما يقتصر الثاني على تطهير الأرض الزراعية لسامي من الألغام التي زُرعت قبل أكثر من ثلاثين سنة في أثناء الحرب العراقية- الإيرانية.
يسرد سامي قصته لأحد كُتّاب العرائض فنفهم من خلالها أنه يريد أن يقدّم طلباً إلى أحد الجهات الرسمية في الدولة بغية إزالة الألغام المزروعة في أرضه، وهو لا يقبل ببيع الأرض، ولا بالتعويضات التي تقدمها الدولة. وبما أنّ المساحة المزروعة بالألغام في "خوزستان" تقدّر بـ 435 فداناً، أي (1,827,000متر مربع) فإن أرض سامي تحتاج إلى 30 سنة أخرى كي يتمّ تطهيرها من الألغام، والمعرقلات، والأسلاك الشائكة. وحينما ييأس من الدولة ينصحه شاكر، وهو أحد أصدقائه بالذهاب إلى سمير الذي يطهّر الأراضي من الألغام لكنه يفاجأ بشخص أعمىً، مبتور اليد فيسأله: إن كان هو مطهّر الألغام أم لا؟ فيرد عليه: كنت. .! ثم يمضي إلى القول ببلاغة الناس البسطاء: "تدري هاي الألغام شنهي، موت صامت، مو عدو ويوكف كَبالك. اصبعك لو يرتعش الأرض ترتعش وياك". فيعود بخُفيّ حُنين، وبمخيّلة مدهوشة. وما إن يصل المنزل حتى تعيد عليه أمه السؤال ذاته الذي يؤرقها منذ زمن بعيد:"يمّه سامي ما نبيع الحوش، ونمشي للديرة. الديرة جبيرة، وبيها شغل وايد، وخير الله وسيع؟". فيأتي ردّه كالعادة:" يمّه شتكَولين، أعوف بيتي ووطني وأروح أسكن الديرة؟ شوفي غيرها". هكذا تتأثث قصة الفيلم ويكسو عمودها الفقري بشذرات متفرقة تمنح النص البصري أبعادًا جديدة، ومعانٍ إضافية. فاللقاء الذي تمّ على غير موعد بينه وبين الشيخ الذي تجاذب معه أطراف الحديث عن قضايا متفرقة لكن جوهرها كان منصبًّا على سبب عزوف سامي عن الزواج بعد مقتل زوجته دلال بلغم فيأتيه الجواب واضحاً وصريحاً:"شيخنا قلبي باب واتسكّر" ثم ينتهز سامي هذه الفرصة ليسأل الشيخ باستحياء عن سبب نفوره من الزواج؟ فيسرد له الشيخ حكاية جيله برمته، ذلك الجيل الثوري الذي أراد أن يحرّر الشعوب المقهورة في فلسطين والمغرب والجزائر، بل أن بعضهم أراد الالتحاق بجيفارا بغية توحيد الشعوب، ولكنهم في النهاية تهمّشوا، ورُكنت أحلامهم على أرفف النسيان ويختم حديثه بمقولة ذائعة الصيت لكنه يعيدها بصياغة جديدة واضحة مفادها:"عدوّنا وراءنا، والبحر أمامنا".
يعتمد حبيب باوي على الفويس أوفر، وهي تقنية وثائقية في الأعم الأغلب يسلّط من خلالها الضوء على ما يفكر فيه سامي، ويكشف عن تجربته النفسية التي يمكن تلخيصها بسؤال واحد وهو:"إذا مات واحد من أحبابك أمامك، ما هو الكلام الأخير الذي أراد أن يقوله لك؟" فيسرد قصة موت زوجته دلال بين يديه وكيف اصطبغت دشداشته باللون الأحمر، وتدفقت الدماء من ضفائرها، وحرّكت شفتيها لكنه لم يفهم منها شيئاً فاكتفت بالنظر إلى الأرض.
يكرّس سامي حياته لابنته سعاد حتى أنه جعل من ظهره وظهر فرسه "ورده" مقعدًا لها يأخذها في الدروب الموحلة إلى المدرسة لكي لا تشعر بأنها ضعيفة وواهنة، فقد تحوّل هو وفرسه إلى قدمين تمشي بهما سعاد وتشق طريقها إلى المستقبل المجهول.
تندرج الأم ضمن المجموعة البسيطة التي تقول كلاماً بليغاً حينما ترى ابنها سامي كئيباً مهموماً فتُعيد إليه صورة المقبرة التي يفصل بينها وبين السوق جدار واحد، فهناك أناس يغسّلون الموتى ويكفّنونهم ويوارونهم التراب، وفي الجانب الآخر أناس يتصارعون من أجل لقمة العيش. فتتساءل بلغتها البسيطة والعميقة قائلة:"يمّه ليش بس تعاين للمقبرة وعايف الدنيا، ما تعاين لبنتك سعاد صارت مرة؟".
لا يمكن لسامي أن ينسى زوجته دلال التي أحبّها حُباً روحياً مثلما لم تنسَ أمه أباه وظلت وفيّة له بعد مقتله ولم تنزع عُصّابة رأسها حتى الآن رغم أن ساميًا قد شبّ عن الطوق منذ سنواتٍ طوال، فكيف يستطيع أن ينسى "دلال" التي تسكن في مهجة قلبه؟
يواصل سامي بحثه الدؤوب عن شخص مختص بمعالجة الألغام فيرسلونه هذه المرّة إلى العجوز "أم أخويّن" لأن أولادها يعملون بتفكيك الألغام فلا يعثر على أحد فينصحونه بالذهاب إلى معمل الحنطة الذي يشتغل فيه أحد أولادها. ويبدو أن جهوده قد ذهبت أدراج الرياح. يدخل سامي إلى أرضه المفخخة بالألغام ويشتبك مع أحد الحرّاس بالكلام لكنه يغادر المكان خشية من تفاقم الأمور. يتجه إلى أبي زاهد الذي أودع عنده الفرس ويقرر بيعها له لكي يقتني لابنته الساق الاصطناعية ويقفل عائداً إلى المنزل. ثم نسمع الفويس أوفر بصوت سامي نفسه وهو يخاطب فؤاد، خطيب ابنته سعاد ويطلب منه أن يعاملها بالمعروف، وأن يكون مُتكئاً لها، وأن يجمّل الدنيا بعينيها.
يتضمن النسق البصري الثالث ستة مقتبسات مهمة تكشف البُعد الثالث لقصة الفيلم؛ المقتبس الأول لكوفي عنان يقول فيه:" قتلت حروب القرن العشرين ضحاياها في القرن الـ 21 بواسطة الألغام. يمكن للغم في حد ذاته أن يأخذ المجتمع بأسره كرهينة". ويشير المقتبس الثاني إلى "أنّ إنتاج لغم يكلف 4 دولارات، لكن تكلفة العثور على كل لغم وإبطال مفعوله تتراوح من 300 إلى 1000 دولار". ويفيدنا المقتبس الثالث بأن"24000 شخص يُقتلون أو يُصابون بالألغام كل عام". أما المقتبس الرابع فيبلغنا "أن 13 دولة لم تتوقف عن إنتاج الألغام. وبأنها تمتلك 16 مليون لغم جاهز للانفجار، تحتل فيها إيران المرتبة الثانية في العالم". فيما يشير المقتبس الخامس إلى "وقوع 7000 انفجار لغم في مناطق حدودية مختلفة لإيران ، تبيّن من خلالها أنّ 13 إلى 25٪ من الضحايا هم من الأطفال". فيما أكد ستيفن نيلين، وهو مسؤول في الأمم المتحدة في المقتبس الأخير إلى "إن إزالة الألغام من الأراضي تستغرق وقتًا طويلاً".
أنجز حبيب باوي 23 فيلماً وثائقياً وروائياً قصيراً من بينها "الأيادي"، "المحبس"، "غلة القلم"، "نهضة السينما"، "الأهواز في رحلة ابن بطوطة"، "برزیلته"، و "سامي" هو فيلمه الروائي الطويل الأول.