ستار كاووش
كان البيت واسعاً وكبيراً، ذلك الذي جمعني في بداية إقامتي في هولندا مع ناس مختلفي الأصول والجنسيات، وهناك حصلتُ على غرفة صغيرة في الطابق الثاني تحاذي السلم الحجري الذي ذكرني بلوحات إشر.
إنها أيامي الأولى في هولندا، وكلما تجولتُ قليلاً في الخارج كان البيت الذي بُنيَ على مكان مرتفع، يبدو لي من بعيد مثل قصر قديم مهجور وهو ينتصب بمحاذاة تلك الغابة الواسعة في الجانب الشرقي لهولندا قرب الحدود الألمانية. ولكي اشتري بعض الاحتياجات كان عليَّ أن أقطع الغابة الواسعة مشياً، لأصل بعد ساعة تقريباً الى مركز القرية.
وسط هذه العزلة، حاولتُ أن أسلي نفسي ببعض الحلول، لذا كنتُ أعبر الغابة لأتجول قليلاً وسط القرية ثم أتبضع طعاماً خفيفاً وقنينة نبيذ رخيص من النوع الذي يوضع عادة على الرفوف السفلية القريبة من أرضية السوبرماركت، وأضعها في حقيبة الظهر، وأندس من جديد وسط الغابة، أتأمل بقع الضوء التي تتوزع هنا وهناك وهي تتخلل الأشجار، ثم أتوغل أكثر في عمق الغابة، لا بِنيَّة العودة من جديد الى غرفتي في الجهة المقابلة، بل كنت قد عثرتُ أثناء إحدى جولاتي هناك على طاولة قديمة مرتبطة بمصطبتين من تلك التي توضع في الحدائق العامة، وقد غطتها بقع تميل الى اللون الأخضر بسبب طبيعة المكان وتسلقت أرجلها الطحالب، فأكنسُ بيدي الأوراق المتكدسة على سطح الطاولة وأجلس كالعادة صحبة نفسي، أحتسي شرابي المفضل وأتأمل الأشجار التي تخيم على المكان وتخترقها أشعة الشمس حين يكون الجو صحواً، ومع كل رشفة أفكر بوضعي واتساءل مع نفسي (ماذا أفعل هنا في هذا المكان؟ بل ماذا أصنع في هذا البلد؟) والسؤال الأهم هو (لمَ أجلس وحيداً في هذه الغابة؟) لم أحصل على جواب واضح الملامح وقتها ولم أتوصل الى نتيجة لتساؤلاتي، لكني كنت في كل مرة، ألعنُ الظروف المتداخلة التي دفعتني للخروج من بلدي الذي أحبه كثيراً ومازال قلبي متعلقاً به، ومع الوقت بدأت اتساءل مع نفسي وأستعيد الأشياء الشخصية التي تهمني في بلدي، والتي افتقدها حقاً، فعرفت بأني لم أكن أملك سوى أهلي وأصدقائي وموهبتي، وبما أن هذه الأخيرة هي الحقيقة الوحيدة والكاملة التي تمثلني، لذا كنت استعيد المعارض التي كانت تقام هناك، وكيف كانت سعادتي تكبر وأنا أرى في عيون اصدقائي لمعان الإعجاب والتقدير، كذلك لن أنسى أمي التي كانت تنتظرني على باب الدار ليلاً بعد كل افتتاح لأحد معارضي، لتسألني قبل دخولي البيت (كيف سارت الأمور؟). ورغم أني كنتُ رساماً جيداً ونلتُ قسطاً من النجاح، إلا أنني كنت أشعر بأني كنت أيضاً وسط غابة كما أنا هنا الآن، والفرق الوحيد بين الغابتين هو أن غابة هولندا حقيقية من أشجار وأعشاب وأحراش وسناجب حمراء وحيوانات أخرى صغيرة، بينما غابة بلدي كانت مليئة بالشكوك والحيطان والأبواب المقفلة، محملة بالأفكار التي تَحِدُّ من الحرية التي تحتاجها روح الإنسان الطليقة، إضافة الى التابوهات التي ليس لها حدود. وكانت الأمور تزداد تعقيداً بمرور الوقت، وحتى بعد أن سافرت تفاقمت أمور هذه الغابة اكثر وتشابكت اغصانها الطائفية وغير الطائفية، مع ذلك لم أفقد إيماني بالبلد وناسه الطيبين. لكن كان عليَّ اختيار الغابة التي أعيش فيها، غابة الغربة أم غابة البلد؟ غابتان وشعور واحد نحو حلم الرسم الذي سعيتُ بكل كياني لتحقيقه.
خرجت من العراق تاركاً خلفي لوحات كثيرة لم استطع بطبيعة الحال حملها معي. وفي أيامي الأولى في هولندا كنت دائماً ما استحضر تلك اللوحات في ذهني، لكن في أحد تلك الأيام استعدتها في ذهني كلها دفعة واحدة، بتقنياتها وتفاصيل معالجاتها وحجومها، استرجعتها بعد أن أمتدت نحوي يد امرأة هولندية اسمها ماريون وأهدتني أول قطعة كانفاس رسمت عليها لوحتي الأولى في هولندا، ربما كان ثمن تلك القطعة لا يتجاوز خمسة فلورينات لكنها كانت وماتزال تساوي عندي الكثير. كانت قماشة الرسم تلك، أول إشارة للإيمان بالناس، وكانت أول مبادرة حقيقية للمحبة ومد يد العون، يا لكرم تلك اليد النحيلة وهي تمنحني قطعة قماش حولتُها الى أول لوحة بل الى أول خطوة أكمل بها طريق الفن في هولندا. لذا فكرتُ قبل أيام أن أبحث عن تلك المرأة التي لا أعرف سوى اسمها الاول وأسم القرية التي كانت تعمل فيها، وسأحاول إيجادها بكل الطرق، كي أُرجِع لها بعد أكثر من عشرين عاماً امتناناً قديم وأعيد لها ديناً جمالياً عالي القيمة، أريد حقاً أن أضع بين يديها وبكل محبة، آخر لوحة رسمتها مقابل تلك القطعة التي أعادت لي من جديد ثقتي بالناس.