طالب عبد العزيز
أستعين بكأس الخمرة على ما يحدث، أجدّف على البلاد، التي لم تحفظ لي مُقاماً، أو أهمد شبه ميتٍ، بعد الكأس الرابعة، هذا كل ما أفعله، أعترف أنْ لا قدرة لي على مقارعة هؤلاء، الذين يمسكون ببنادقهم، ويقتلون الناس أمثالي متى رأوا ذلك، لا رادع لهم، وقد أماتوا الله في قلوبهم.
فأنا ومنذ سنوات تراجع عندي مفهوم البطولة، مثلما تراجعت في روحي أمثولات الوطن والمواطنة والحياة الكريمة، هذه بلاد بات الانتماء لها لعنة، والعيش فيها ضرباً من الجنون، فلو خُيّرت بين مغادرتها والإقامة مفرداً في جزيرة، لأخترت الجزيرة، ذلك لأنني سأكون آمناً فيها على حياتي. لا أكتب مرثية لوطن نذرت دمي فداءً له ذات يوم، لكنني، أكفكف دمعاً لا أقوى على إبقائه عالقاً بين الجفن وجوفه.
المفارقة أنني أقرأ الآن في كتاب اسمه (تاريخ الجمال- الجسدُ وفنُّ التزييّن- من عصر النهضة الأوروبية الى يومنا هذا) كتاب يتحدث عن تقلبات الجسد جمالياً، عبر التاريخ، في أوروبا. وكيف آل الجسد الانثوي الى ما نحن نتأمله اليوم، عن مشدات الصدر والتنورات الواسعة، وعن ضمور البطن، وتكور الردف، وانقباض الساق، وارتفاع القدم وو حيث لم يعد الجمال فحشاً ولا جريمةً، فهذا الأب (دو بو سك) يكتب في ( المرأة الشريفة) كتابه الذي صدر في العام 1646 ( لا اظن انَّ هناك خطراً في تجميل الوجوه، كما لايوجد خطر في ترميم الحجارة الكريمة، أو في صقل الرخام، ترى لماذا تمنع الزينة، ولماذا لا يُحتفل بالجسد وقد منحته الطبيعة الجمال والتدفق) .
وفي تتابع صفحات الكتاب، الذي أفرط في تقصي قصص وحكايات الجمال، عبر التاريخ سألت نفسي، السؤال السخيف هذا: ترى، لماذا يغضب أحدُنا إذا أعلمه صديقه بانه التقى شقيقته أو زوجته في السوق، وقال له بأنها كانت جميلة جداً ؟ لماذا التطيّر والغضب؟ هو لم يتحرش بها، ولم يُسمعها كلاماً خارج حدود اللياقة، ترى، هل سيكون هادئاً، مستكيناً، مسالماً إذا قال له: بانه التقاها فكانت بشعةً، قبيحةً ؟ أيهما أطرى لروحه أن تكون شقيقته أو زوجته جميلة أو قبيحة؟ ألا نرى بان مفاهيم مثل الجمال والشرف والطهر ملتبسة عندنا، بل وباتت خارج حدود الإنسانية، بما جعل من حياة المرأة كابوساً بيننا.
نحن نطمر الجسد الأنثوي قبل بلوغنا حدود روحه، ندثرهُ بما بين أيدينا من الثياب والنصائح والفروض مع أنَّه صائر الى سرير بوسادتين، لا محالة، وهو لا بدَّ مرتعش في لحظة ما، والنهد الذي أثقلناه بالوعظ وأوهمناه بوجوب تراجعه في الجسد، سينتفض ممزقاً الحرير والمخمل، وستأتي أصابع من تحبُّه، تخرجه من وقاره الى فضاء معناه الحقيقي، وستتخلص السيقان التي طمرناها بالصوف والجينز والكتان من ذلك كله، لتُفدى بالقبل والتأمل والضم والشم، حتى لتغدو عنوان ومعنى وجود رجل وامرأة في سرير.
أتذكر الحكمة بالغة الجمال التي تقول:" نافذة لا تطلُّ امراةٌ جميلةٌ منها جديرة بأنْ تغلق الى الأبد، ويُعرض المنزل للبيع" .حزين، لأنَّني لا أرى امرأة في شرفة تودع حبيباً لها، وحزين لأنَّ بطون نسائنا جميعاً لم تعد مسطحةً، حزينٌ، لأنهن لا يجدنَّ الرصيف الآمن لجريهن عليه، صباح كل يوم، أفتقد بناتي وشقيقاتي وزوجات أبنائي في أماكن صناعة الجمال، ويوحشني أنهن لم يدخلن الماء بملابس البحر. القتلة يصحّرون حياتنا.