طالب عبد العزيز
الى العم عبدالله البريكان
سيكون للزبيريين سوقٌ للكمأة عمّا قريب، إذ، لم يبق في حاضنة السنة الحالية إلا القليل من الأيام، والزبير ومنذ قرون أربعة كانت طريقاً للإبل والخيل، ومحطة استراحة العابرين، فهي على التِّربة التي تتوسط النخل والبر ، وهي سوقٌ للعطور والسكائر المهرّبة من الكويت، تخلو سككها وأزقتها من الناس فجراً، فهي دارة المئة مسجد ومسجد.
النعل الزبيرية المصنوعة باليد، والمخصوفة بالمِخرز والخيوط الملونة دالة السكان الى أبواب مساجدها في الجمعات، واليشماغ الأحمر ، المعتنى بوضعه على الرأس، وغير الدال على الصلف والتكبر عنوان مجتمع مسالم، ومتصالح مع القادم لها والخارج منها، ومع البرية التي تسفُّ وتحيط المدينة.
كلُّ نجديٍّ في الزبير يتطلع الى بستان في ابي الخصيب، وكل حِضْري بأبي الخصيب يشبح بعينه اتجاه الأثل ورياض البرجسية، أما العُرْبيّ القرناوي فنصفه الأول نخل وماء ونصفه الثاني مشاحيف مملوءة سمكاً. هؤلاء البصريون الثلاثة بمشتركاتهم تلك، لم يبق من نسقهم ذاك اليوم شيء، بعد أن اختفوا علامات ودوال، فقد أتت جرّافات العصر على كل ما كان ماءً ونخلاً وأثلاً وبرجسيةً ومشاحيف وسمكاً، وصارت المدينة خليطاً هجيناً، لا تجمعه هوية، ولا تحفظه دالةٌ، وكان الزبيريُّ النجديُّ أول المختفين، حتى لم يبق للكمأة سوق بالمعنى الذي كان، وتعجل الحذاؤون بإغلاق دكاكينهم، بعد غلبة النعل الصيني على سوقهم، المُسقّف بالصفيح، والذي كنا نأتيه من سوق الماعز والجت.
البارحة، في قاعة للشعر الحديث بالبصرة، على شطها العرب الكبير التقيت زبيرياً، هو ممن تخلّف عن أسلافه الذين غادروا، أو عادوا الى الهضبة، بنجد ابن الرِّشَيد ،كان نصف نجديٍّ، لا يعتمر يشماغاً أحمرَ، ولا ينتعل نعلاً ملوناً ومخصوفاً باليد، وقد تبدّد لفظه بين المقاعد الألف، في القاعة المزدحمة، استعجلني مودعاً، لكأنه شاء أن يتركني في الحيرة التي لا أملك إجابتها، كنتُ سأسأله عن سوق الكمأة، التي تؤتى من سوق الماعز والجت، حتى لكأنني، لم أرَ في التلفزيون أعمال شركة المجاري، وهي تشقُّ السكك، وتزيح المباني القديمة، فيتبعثر الطابوق العريق أصفر باهتاً، ذهبت عظمتُه، التي كانت قائمة ذات يوم، بتعاقب الساكنين، وقد دوّت عليها ساعات انتظار لا مُوقِفَ لها، وطرقت أبوابها آلافُ الايدي، هذه المدوّنة الاثرية، بتعبير أسعد الاسدي، أنّى لي أن اتعقبها، في المسافة التي سحبها نصفُ الزبري بقدمه، وهو يغادر القاعة مستعجلاً حيرتي، غائباً في لجّة ما كان لنا ذات يوم.
كنتُ اعتقدُ بانَّ ضياع الهوية يعني أن تفقد في سوق ما هويتك الشخصية التي تعرّفُك، بأوراقها وصورتك التي عليها، لكنني، وفي تسليتي السنوية، التي اتصفح فيها حافظات السنوات السابقة، وجدتُ أنَّ الهوية الشخصية لم ولن تكون ورقاً، وقد لا تحمل صورةً، إنما هي لفظٌ وآلةٌ، تتطور لتصبح يشماغاً أحمرَ ، أو نعلاً ملوناً مخصوفاً بالبد ، أو مشحوفاً على صفحة ماء زرقاء، وتكون بستان نخل على نهر عامر بالمدِّ والجزر، وقد تكون سوقاً للكمأة يدخلها نجديٌّ غادر أسلافه، أو أجبروا على المغادرة، فهو خائفٌ مرتابٌ، يتطلع لها عبر شاشة زرقاء، يبكيها من نافذة صمته كل يوم.