لطفية الدليمي
الماء يدون الزمن في وجود الكائنات ، وهو سيد الطبيعة المقروء في صحائف الرمل والوديان والموج .كنت في وحشة الغربة أتبع أنشودة الماء كل صباح ، تسحرني رقرقة النوافير وسبل الماء ، أبحث في كل المدن عن أنهارها التي تحتفي بالجسور والقوارب والصيادين والمتنزهين،
أسير متمهلة نحو نهر السين الذي يخاله الحالمون به نهرا كأنهار الأساطير المشرقية ولايعلمون أنه مدجنٌ بأرصفة الحجر والسلالم التي صيرته قناة مأسورة ضئيلة بمياه كدِرة ، تمضي بي الرقرقة من نهر تعانقه الذاكرة الى نهر تتنافس على جانبيه كائنات متعجلة .
نهر السين لا يأبه بفتنة المطر ولايعنيه ملح الدموع ، ماؤه مؤبد من نوافير الميادين وقصور الملكات والينابيع ، دموع النساء في وحشة المدينة القاسية لاتعني له سوى إلتماعة شذرة على وجوه مستوحدة غابت عن ليلها دواعي الوصول ، فمضت تبحث عن نهايات مرتجلة في الماء مع عشب الأعماق ودعابات السمك.
نافورات بارك (أندريه ستروين) تتراقص متعالية في مجون شهوي على إيقاع حياة مبرمجة ، هواة رياضة الجري محصنون من فضول العابرين بموسيقى تبثها فيهم السماعات وتعزلهم عن كل ماحولهم ويتشربها الجسد والحواس فتبدو في عيونهم نظرة موصولة بالعدم، لا أشذاء الخزامى ولا عبير البنفسج ولا نداءات البط في البرك الصغيرة بقادر على إختراق دروع فردانيتهم وعزلة الكائن الروبوتي فيهم .
لا أحد سواي يستخفه صوت الماء متدفقا من شلالات مصطنعة على مدارج عالية، الماء سيد الفرص الأخيرة لمعانقة حلم سعيد في نهر باريس اللامبالي، في جيب بنطلوني الجينز أضع دوما عنوان مسكني ورقم هاتف صديقة مغربية تحسبا لموت مجاني في مدينة كل شيء فيها بثمن باهظ ، الغوص في الماء شهي ولين وأمومي، غوص في رحم التشكل وإستعادة العناصر لأصولها المحيطية، كثيرون يرودون النهر هذا الصباح المفعم بالضوء ، ملاحون ومدربو قيادة زوارق، اليخت المسمى ( مايا ) يرسو على مقربة من لحظة الشروق ، المتريضون يقيسون صباح السبت بالخطى والعرق المتفصد من أجسادهم .
تمنحني بعض الأمل سيدة تسعينية تنزّه نفسها في منطاد تؤجره مؤسسة (يوتل سات) بعشرة يورو لكل مغامر، نظرة الطائر الى المدينة تستحق الثمن والمجازفة بما تبقى من عمر في تقويم إمرأة فانية، السيدة تطير معولمة في منطاد مزخرف بمشاهد هندية وصينية وباريسية ، وهي تؤبن نهارها بنظرة الطائر من أعالي خوفها، وللخوف حبل يشد المنطاد الى سرة حياتها الزائلة، أنا بين أزاهير الزنبق والليلك أتحرى بهجتها الطفولية في الأعالي ، هي فوقنا في الهواء تتذكر كلبها الصغير وقناني نبيذها و مقهاها المفضل و تنسى عشاقها الغابرين وألوان عيونهم وأسماءهم . هي لاتراني، لاترى غير وهمها عن خلودها المهدد في سلة المنطاد، ولاتحدس رغبات الآخرين وبقايا أحلامهم ، فهي لاتريد من صباحها غير نزهة فردية أخيرة على مشارف النهايات .
تجنح خطواتي نحو النهر، خفة جسدي تستجيب لدعوة الماء، لكني موجوعة بتمزقات بلادي ، مثقلة بأحزان قرون من التباغض والضلال مابين ممالك آشور وبابل والإمبراطوريات اللاحقة ، لاشيء هنا يعرفني أو يدرك حقيقتي في بيداء الغربة الأوروبية ، أحدق بالنهر ، فترقص الظلال في قلب الهاوية ،الجسد يشتهي الغد، والروح تعلو فوق اشتراطات الأرض ، خفة الصباح تنتشل روحي من فكرة النهايات ، فأعيد توقيت ساعتي على اللحظة الماثلة، أهتف بي : ليس لنا أن ننتحب على أنقاض الأمس، لحظتنا هي فردوسنا المرتجى ، فلنتوقف عن التوق ليوتوبيات مستحيلة.