ستار كاووش
كل حديقة أتجول فيها أو حتى أمر بمحاذاتها، أحصل منها على شيء يفيدني بالرسم وابتكار الأشكال والأمساك ببعض الروابط والتجانسات التي تحصل بين المساحات والألوان التي أضعها على سطوح اللوحات، وزيارة حديقة جميلة مثل حضور معرض فني أو زيارة متحف،
وهي بكل الأحوال تشبه واحدة من لحظات الانشغال بالرسم. تُرى هل جرب الكثير من الناس، التطلع الى ألوان الزهور وما عليها من تناغمات وتدرجات وبقع وخطوط وتفاصيل تمنح الكثير من الدهشة والتأمل؟ هل شعروا بما تمررهُ الطبيعة في نفوسهم من طمأنينةٍ ودعة؟ حيث العشب الأخضر الفتي وسيقان الشجيرات الصغيرة الطرية التي تصطف هنا لِتُكَوِّنَ سياجاً جميلاً، أو تنتصب الكبيرة منها بهيبة وهي تظلل النباتات الناعمة التي تبرعمت تواً، أو حين تتناغم متوسطة الحجوم منها وتتكاتف مع بعضها بألفة مثل فتيات قرية أيام الأعراس.
لا يمكن للون الأخضر أن يمرَّ من أمامي هكذا عفو الخاطر دون ان ألمسه بروحي وأتحسسه بكامل طاقتي ومشاعري لينتقل بعدها بنعومة الى قماشات لوحاتي، لكنه قبل أن يستقر على سطوح اللوحات، أمنحه مسحة من الابتكار، فأُعَدَّلُهُ بمصفاة خاصة في ذهني ليكون غير مشابهاً بشكل حرفي للواقع ولا يحاكي الطبيعة بشكل كامل، لذا فالحدائق هي جولة تخص الروح قبل الجسد، تعطر مشاعري وتهذب انسجامي مع كل مايحيطني من اشياء. أُنظرْ اليها وهي تتشبه بالنساء حين ترتدي فساتين الفصول وتمنح الحياة معنى حقيقياً بتغيراتها وتحولاتها وتنوع ألوانها التي تنعكس علـى حافات الأوراق والنباتات والزهور، حيث تتبدل الألوان وتتجدد النضارة ويتغير التأثير بتبدل أوقات السنة.
رسمت الحدائق في عشرات اللوحات، وفي كل مرة أنظر بتمعن الى هذه المساحات التي يغازل فيها اللون الأخضر كل ما يحيطه ليبلغنا عن وجود الحياة وتجددها ويكشف عن جانبها المسترسل مع رقة هادئة وفريدة، ويزداد المشهد جمالاً وألفة، كلما اختلطت تونات الألوان وتدرجاتها مع حفيف الأوراق أو حتى رقة ترنحها وهي تتساقط. ولا يمكنني هنا سوى أن أكرر تشبيه الحدائق بأخياتها النساء، فهي تتناغم معها بشكل مذهل ويكاد يكون سحرياً، ففتنة الحدائق تتسع وتعلو حين تختلط بالنساء وتتنفس حضورهن وبهجة تنوراتهن الأنيقة المعطرة، حيث تتطاير خصلات الشعر هنا وتلتمع العيون هناك، إيماءة في هذه الناحية وخطوة سريعة في تلك الزاوية، وتوقف للتأمل في ناحية ثالثة.
البهجة هي الحاضرة والحياة تبدأ هنا حيث الحدائق، فلا عطر أعذب من ذلك ولا استرخاء اكثر من هذا الذي يحدث فيها، وأن كانت البلدان والمدن والأماكن التي فيها حدائق، تبدو جميلة ورائعة، فكيف إذن والبلد الذي أمرر فيه نظري كل يوم، عبارة عن حديقة كبيرة، بل واسعة جداً، نعم هولندا هي حديقة أوروبا التي يغطيها العشب والخضرة ويحاذيها الماء من كل الجهات، ناهيك عن الوجوه الجميلة التي تتمرئى بين زرقة السماء وخضرة الأرض، وحين تكون الزهور أهم صادرات البلد، فهذا أيضاً يقول ما فيه الكفاية.
عادة ما أنظر الى سياج الحدائق أولاً قبل تأملها، السياج في الغالب هو الذي يعطي للحديقة شخصيتها، وهو يذكرني دائماً بالقصص المصورة والحكايات الجميلة، وفي أيامي الأولى في هولندا كانت صديقتي مصممة ومنسقة حدائق، وهي من أمسكت بيدي مرات عديدة لتريني حدائق لم أكن أتخيل وجودها ولن استطيع اكتشافها بسهولة، لتمر السنوات ويكبر هيامي بالحدائق حيث أتجول كل يوم تقريباً خارج المرسم، أتنقل بين اماكن اعرفها ودروب تؤدي الى حدائق تعكس شخصيات أصحابها وحياتهم وطريقة معيشتهم، فهذه الحديقة لأمرأة مسنة، وتلك لزوجين شابين، أما الحديقة التي تبرز هناك، فهي لرجل وحيد، بينما تَخُصُّ هذه القريبة رجل نشيط يقضي ساعات طويلة من يومه بين النباتات والزهور وتشذيب الشجيرات، وهذا دليل على أن (أصابعه خضراء) كما يقول المثل الهولندي الشائع، والذي يطلقونه على الشخص المنشغل دائماً بالزراعة وتعديل الحديقة.
أعود من جولاتي بين الحدائق عادة، وأنا أحمل أوراق نباتات ملونة أو غريبة أو نادرة. أوراق أحاول توضيفها مثل كل مرة في لوحات جديدة، فمثلما هي جزء من الجمال الذي يحيطنا فهي أيضاً تمنح الإلهام في صنع هذا الجمال.