ستار كاووش
هناك مثل إنجليزي قديم يقول (أذا أردتَ أن تترأس، فعليك أن تعتمر قبعة أولاً) وهذا يشير بما فيه الكفاية الى القبعة وأهميتها وتأثيرها على رؤوس الناس وشخصياتهم ونوع الانطباع الذي يتركونه في أعين الآخرين. وتزداد معرفتنا بهذه الأهمية كلما تأملنا القبعة وهي تستقر على رؤوس الآخرين وفكرنا في الأسباب المتعددة التي تدعوهم لاستعمالها.
في أيامي الأولى في مدينة كييف، بينما كنت أنتظر الباص، صاحت بي جارتي ناديجدا بصوتٍ عالٍ بعد أن رأتني واقفاً في البرد( ستارچِك، عليك بالقبعة) وهذا هو أسم التصغير أو التحبب الذي كان يناديني به أصدقائي الروس والاوكرانيين حسب اللغة الروسية. وأكمَلَتْ جارتي بعدها (سيقتلك البرد بدونها) لتقول في النهاية بطريقة استعراضية ساخرة (مرحباً بك في كييف!) وهناك بدأت اعتمر القبعات كثيراً لتقيني البرد الشديد، لكني مع الأسف كنت عادة ما أكتشف بعد عودتي متأخراً الى البيت، بأني قد أضعت قبعتي في واحدة من حانات كييف.
وبعد سنوات حين استقر بي المقام في هولندا، بانَتْ قيمة القبعة أكثر حين عرفت أن هذا البلد المحب للجمال لديه عيداً أو يوماً خاصاً للقبعات، وهو يوم احتفالي تعتمر فيه النساء في الغالب قبعات مختلفة وغريبة التصاميم.
ولا تتوقف دلالات القبعات على البلدان وثقافاتها فقط، بل تشير أيضاً الى الأشخاص أو المجموعات وما يمثلونه مهنياً، علمياً أو حتى اجتماعياً. ففي أسواق وبورصات الجبن الهولندية التقليدية القديمة مثلاً، هناك شخص يدعى (الأب) وهو يراقب أوزان الجبن وكمياته التي تدخل السوق ويشرف على الأسعار والعمليات الضخمة لتوزيعه، وهو عادة ما يعتمر قبعة بلون برتقالي، عكس مجموعة الرجال الأربعة الذين يساعدونه حيث تكون قبعاتهم باللون الأبيض.
وهناك قبعة الخريجين المسطحة من الأعلى، والتي اختلف المؤرخون بين أصلها إن كان دينياً أو يرجع لقبعات عمال البناء الذين كانوا يضعون الإسمنت على رؤوسهم، وهناك أيضاً من يقول بأن شكلها يعود لما كان يعتمره فنانو وفلاسفة أوروبا في القرن الرابع عشر. أما القبعة الصينية (قبعة الأرز) المصنوعة من القش بشكلها المخروطي، فقد صُممت بهذا الشكل لتقي معتمريها الشمس والمطر على حد سواء، كذلك يمكن ترطيبها بالماء لتحافظ على إنعاش الرأس عند اشتداد درجة الحرارة.
ومثلما هناك قبعة الساحر التي تخرج منها الأرانب والمناديل الغريبة، فهناك قبعات الرسامين والجنود والفلاحين، وغيرها للملكة والطباخ وعامل البناء، وحتى التاج ليس سوى قبعة، لكنها مصنوعة من الذهب. وقبعة تشارلي شابلن الشهيرة التي تشير الى الأفلام الصامتة وصارت رمزاً من رموز التشرد والبساطة. وقبعة المكسيكيين الواسعة وعلامتهم المتميزة التي تقيهم حر الشمس. وغير ذلك الكثير من القبعات مختلفة الوظائف والأشكال.
مضت السنوات وابتعدت القبعة عن مهماتها الوظيفية كثيراً أو قليلاً، لتكتسي أهمية جمالية أو رمزية أو حتى اجتماعية، وتشق طريقها أكثر نحو الناس، وتدخل في الأمثال والحكايات والقصائد والإعلانات وحتى الأغاني، وبين كل هؤلاء كانت حصة الرسامين كبيرة، حيث أدخلوها في أعمال صارت علامات مهمة في تاريخ الفن مثل لوحات الفنان البلجيكي الشهير رينيه ماغريت، والألماني أوغست ماكه والهولندي فنسنت فان غوخ والفرنسي تولوز لوتريك والاميركي ادوارد هوبر وغيرهم الكثيرين، وبتنا نعرف الفترة الزمنية من خلال طرز القبعات التي تظهر في اللوحات كذلك نعرف طبيعة الشخصيات المرسومة وربما مكانتهم الاجتماعية من هيئات وأنواع قبعاتهم.
وكي لا أكون بعيداً عن أجواء هؤلاء الرسامين الذين أحببتُ أعمالهم ووضعتها نصب عيني دائماً، لذا كان لي نصيب كبير من رسم القبعات، وأدخلتها في لوحاتي مراراً وبمختلف الأشكال والحجوم والتصميمات والألوان، حتى بات الكثيرون يسألونني عن سبب اهتمامي بهذه المفردة، ولماذا أنا مولع بها الى هذه الدرجة؟ وهل أن هذا الاهتمام يخفي بين طياته شيئاً رمزياً معيناً؟ والحقيقة هي أني استخدمت القبعة كحل تشكيلي، إذ كنتُ أبحثُ دائماً عن عذر لاضافة بعض الخطوط والألوان الى لون الشعر، وكانت القبعة هي المفتاح السحري لذلك، وهنا بحثت عن شكل مناسب لهذا الشيء الذي يغطي الرأس، فلم أجد أجمل من استعارة (العرقجين) التي كان يضعها أبي على رأسه، ليلف حولها (الجراوية) كعادة أهل بغداد في تلك الأيام الجميلة، وهكذا رسمت هذه القبعة الصغيرة وألبستها للنساء والرجال على حد سواء، ثم أدخلتُ بعدها قبعات مختلفة في لوحاتي، ومثلما مَنَحَتْ هذه المفردة حضوراً للشخصيات المرسومة، فهي قد أعطت استقراراً وتناغماً للتكوين الذي أبحث عنه.