اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلامٌ عاديٌّ جداً: (لؤي عبد الإله رساماً)

كلامٌ عاديٌّ جداً: (لؤي عبد الإله رساماً)

نشر في: 11 يناير, 2021: 08:04 م

 حيدر المحسن

هل يجوز لنا التساؤل كيف يكون شكل القصة القصيرة في القرن القادم؟

القصة العظيمة هي التي يشعر القارئ بالطمأنينة إلى وجود شخوصها، لهم من قوّة السحر التي تجعل لا شيء في ذهن القارئ وفي وجدانه يعود كما كان. يوجّه الصبي هادي إلى أترابه سؤالاً عن سرّ الخليقة في قصة "مدرسة المكارم":

كيف ومن أين يولد الإنسان؟ وعندما يبدأ بشرح الأمور على حقيقتها، يشعر الصغار بالبرد رغم قيظ تمّوز، حانقين على آبائهم، خجلين من أمهاتهم، مكلّلين بالعار. "أعطنا دليلاً على صحة كلامك"، سأله أحدهم. ولم يكن من هادي إلا أن يقوم بمزاج منفلت بإثبات كلامه أمام هؤلاء "الدعاميص" التي لا تفهم في الحياة شيء: "مدّ يده داخل دشداشته البيضاء إلى بقعة مجهولة لنا، ثم راح جسده يختضّ باضطراب.. فجأة، أخرج قبضة يده من جيبه، ثم بسطها أمامنا، وكم كان مدهشاً أن نشاهد مخلوقاتٍ فسفوريةً عاريةً تسبح على راحة كفّه، استطاع كل منا أن يجد شبيهه وسط ذلك الحشد الهائل الكبير، رغماً عن العتمة الثقيلة، ورغماً عن الحمى التي عصفت بنا آنذاك". كم صار الأدب يشبه فن الرسم الحديث، حيث الخطوط والأشكال والألوان تأتي من وحي الخيال، ولا علاقة لها بالواقع. الأبيض صار في القصة فسفورياً، وغير المرئي بات واضحاً للعيان. وتأتي قوة "مدرسة المكارم" من إمكانية رسمها، مثلما استخدم الكاتب في قصة "الحارس الجليدي" تقنية تعتمد أصول فنّ بعيد عن السّرد، هو النحت.

يبدأ لؤي عبد الإله هذه القصة بما يدلّ على شكّه في حقيقة كل ما يجري حولنا: "ما زال الشكّ يراودنا، كلما التقينا، بحقيقة ما جرى في تلك الليلة". وتنتهي القصة بالكلمات نفسها: "ستمرّ سنوات قبل تسرب الشك إلينا بحقيقة وجود السجن، وسنوات أخرى للشك بوجود المعسكر".

لا يكشف الكاتب عن لحظات نادرة من الزمن لكنه يقدم حكاية تصلح أن تكون عامة لجميع الجنود، وهذا هو الكشف الذي تقدّمه القصة القصيرة. إنها تشبه كلمات ينطقها رجل وحيد مستيقظ وسط جمهور نائم، غايته الكشف عن الطريق التي يمكن أن تدلّ الجميع على السبيل للخروج من المتاهة. 

مجموعة جنود يتسلّلون من المعسكر قاصدين بيوت الغجر، ولما يكتشف العريف الأمر يقرّر سجنهم. لا يحتمل الجندي جاسم قراد السجن وبراغيثه، ويرفع يده للعريف موافقاً على أداء واجب الحراسة في تلك الليلة "تحت سماء موحشة بحمرة كابية، ووسط عويل ريح قطبية". ينزل الثلج بكثافة وتتوقف الريح، وكان جاسم يروح ويجيء في نوبة الحراسة مثل كرة بندول "تتحرك بانتظام مثير للدهشة بين طرفي ساحة التدريب الفسيحة". مع اشتداد البرد تزداد وحشة المكان، ويحلّ بدل ظلام الليل بياض منطفئ. المشهد سينمائيّ أكثر منه سرديّ: "ها نحن، وللمرة الأولى في حياتنا، نشاهد ثلجاً؛ ثلجاً على هيئة صفائح شاقولية وأفقية، منتشرة في كل مكان". ويتقدّم الليل وتتباطأ كرة البندول، إلى أن "توقف ذلك الرقاص عن الحركة". بالقرب من الشجرة الوحيدة في المعسكر مات الجندي واقفاً، متجمداً، مطلقاً "صرخة مجلجلة، لكن الجليد كتمها بأصابعه القاسية، ثم حوّلها في الفضاء إلى كتلة ثلجية، مشعشعة بنثار أضواء المصابيح البعيد". 

يصنع لؤي عبد الإله من صرخة الموت عملاً منحوتا يشهد على المأساة التي تنتظر الجنود. الطريف في الأمر أن التمثال مصنوع من الثلج، عندما تشرق الشّمس عليه يذوب ولا يبقى منه غير الذكرى التي يطويها النسيان. لا أحد يتذكر الجنود الضحايا، وبين ليلة وضحاها تقوم الحرب ثانية، وسوف لا تؤدي إلى حرق الروح والضمير لدى الإنسان فقط، إنما غرض الحرب الأساسي هو فناء الحياة. في "الحارس الجليدي" قدّم لنا الكاتب موت الإنسان بصورة عملٍ منحوت، وفي "مدرسة المكارم" رأينا الحياة مرسومة بألوان مائيّة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram