حوار: كاظم غيلان
برغم تجاوزها العقد السابع من عمر عاصف بالأحداث والمفارقات إلا أن ذاكرتها تستدعي الوقائع وكأنها حصلت تواً؟
سميرة مزعل التي حملت الكاميرا منذ صباها وشكلت علامة فارقة في مدينتها الجنوبية – العمارة – بدأ الانحناء قليلاً في ظهرها والثقل في خطاها ، عمر نهبته السجون وأقفاص الاتهام والمشافي مثلما شهد انتصارات ونتاجات غدت لصيقة الذاكرة الجمعية .
هذه الـ(سميرة) شاهدة عصرها التي تصدرت تظاهرات حزبها وشعبها تنظراليوم بعين الأسى للمدينة ، إذ تتريف وتفقد ملامح التحضر والنهوض، وتجيب بثقة عن الأسئلة حيث يكون الماضي حاضراً بقوة.
المغامرة والخيار و(بلبل الجامعة)
سعيكِ لعالم التصوير والسياسة مبكراً هل كان مغامرة أم خياراً مدروساً؟
- لربما مغامرة أوصلتني لخيار درسته جيداً من خلال التجارب فيما بعد، كانت دهشتي الأولى لذلك الصندوق الخشبي الذي يقف خلفه المرحوم والدي وكيس القماش الأسود ألذي يدس به رأسه وبعدها يُخرج من جرار مليء بالماء والمواد الكيمياوية البدائية صوراً للناس قد أخذتني كثيراً ، كان إلحاحي على والدي لاينقطع لمعرفة صندوق الأسرار هذا فما كان له إلا أن يعلمني المهنة ويكشف لي عن أسرارها تلك ، فأصبحت المصورة الأولى التي تحمل الكاميرا وسط دهشة واستغراب أهل المدينة المحاصرة بتقاليدها الاجتماعية الصارمة ، رحت أكسر تلك الحواجز والقيود بثقة وإصرار، أما السياسة فقد كان لشقيقي الأكبر عبد الرحمن شمسي دوره في دخول عالمها، عبد الرحمن كان مناضلاً شيوعياً وفناناً في نفس الوقت ، أطلقوا عليه ( بلبل الجامعة ) لحلاوة وقوة صوته وكان من أصدقاء الشاعر مظفر ألنواب حيث صحبه مع عدد من أصدقائه الى أرياف الكحلاء عند الخمسينيات ليتعرفوا هناك على مغنين شعبيين رائعين كــ( جويسم وكريري) ويذكر ذلك مظفر في العديد من لقاءاته الصحفية ، كما كنت أرقب جلساته التي تمتد لساعات طويلة في أجواء من التمويه والسرية مع شيوعيين بارزين كالشهيد صاحب ملا خصاف( صويحب) وصالح دكلة والشهيد عباس نعمة الذي قتلته عصابات الحرس القومي أثناء انقلاب 8 شباط 1063 الأسود ، تعلقي بعبد الرحمن هو الطريق الذي أوصلني للأنتماء الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي ودخول السجن مبكراً أيضاً.
بيان رقم (1)
هنا أصبحت الكاميرا لديك بخدمة الحزب لامحال أم عادل؟
- بل وأكثر ، أصبحت سلاحاً في الحقيقة ، كنت أراقب حالي وحال الناس وقطعان الحرس القومي كيف تمارس الرعب والقتل والانتهاك بوحشية ، وراحت السجون تغص بمناضلي الحزب الشيوعي العراقي وبضمنهم أخي عبد الرحمن ، ووحشية قتلهم الزعيم عبد الكريم قاسم وعرض صورته في التلفزيون حيث قام ذلك العسكري المنبوذ بالبصاق في وجهه وهو ميت ، مشاهد تعكس وحشيتهم ونزوة الانتقام المعلن من شعبهم . في تلك الأجواء المشحونة بالتوتر والقلق جاء عدد من أصدقاء شقيقي عبد الرحمن وهم من الشبيبة الشيوعية ومعهم منشور يحمل عبارة ( أيها الطغاة أرفعوا أيديكم عن المناضلين) وتمّ طبع البيان بواسطة جهاز( لارجر) فكان بمثابة البيان رقم(1) في رد الفعل ، عملية الطبع استغرقت ساعات طويلة انتهت بطباعة ألف نسخة ووزعت على نطاق واسع أثار رعب وهلع الحرس القومي ، فجرت حملة اعتقالات واسعة إنهار أحد الشباب أثناء التعذيب وأعترف فما كان من الحرس القومي إلا مداهمة بيتنا واعتقالي مع شقيقي خالد ، عذبت بوحشية نقلت على أثرها الى المستشفى ثم جرى تسفيري الى البصرة ومنها الى بغداد حيث مثلث أمام المجلس العسكري العرفي الأول وتوالت أحكام السجن بحقي وعدد كبير من الشيوعيين الذين تفرقت بهم السبل الى حيث سجن( نقرة السلمان) وبقية سجون العراق ، كان في تلك الأجواء دورٌ لبعض المنظمات المساندة لقضية الشعب العراقي ولها تدخلها الدفاعي عن السجناء ومنها منظمة يرأسها الفيلسوف البريطاني ( برتراند رسل) ومساعده الشهيد خالد أحمد زكي وهذه المنظمة طالبت بإطلاق سراحي ، وحصل ذلك بعد شهر من المناشدة .
حياة مكابرة
الكاميرا هنا دخلت حيز السياسة فهل انعكس ذلك في تعاملك مع الناس على أساس ميولهم؟
- لا أبداً ، نحن عائلة تمتهن التصوير وورثنا المهنة عن الأب ، ولذا تجدنا أبناء وبنات وأحفاد نمارسها كما يمارس بقية الناس مهنهم، أنا أحمل الكاميرا وأدخل المدارس والمتنزهات وأصل الى أعماق الأهوار ، أقوم بتصوير سائر شرائح المجتمع ، في خزين التصاوير -–أرشيفي -–تجد عرسان وشهداء ومفقودين ومهاجرين ، تجد أطفالاً أصبحوا وزراء وقادة جيش مثلما تجد مسحوقين ، تجد أبناء وأحفاد الشيوعيين والبعثيين والإسلاميين ، أما السياسة فلها حيزها والتزاماتها ولي الشرف في أنني دفعت ضريبة انتمائي لشيوعيتي بوقت مبكر ، عشت سنوات طويلة من القهر والتشرد لكنني لم أنحني أنكساراً أو إذلالاً ، ضريبة المهنة لها أبعادها الاجتماعية ودفعتها مبكراً أيضاً ، إذ كنت في سن لافت للأنظار والتقوّلات وهذا يحصل في بيئة تحاصرها أعراف اجتماعية وعشائرية إلا أنها تلاشت بشكل تدريجي بفعل تفهم الناس وزيادة الوعي .
الضحية والجلاد
تم استدعاؤك كشاهدة ضد رموز النظام السابق فكيف تصفي لنا لقاء الضحية بالجلاد؟
- حصل هذا في العام 2007 إذ استدعيت كمشتكية من قبل محكمة الجنايات العليا الخاصة بمحاكمة رموز نظام صدام حسين ، الشكوى كانت بسبب ماحصل لي وللآخرين عقب انتفاضة آذار 1991 ، ولو لم تكن هناك مبررات للشكوى لما تقدمت بها أبداً ، فالانتهاكات التي حصلت لم تكن خفية على أحد إنما كانت معلنة ، تصور أنا وسائر أبناء وبنات عائلتي وصولاً لبيت أخي في بغداد زج بنا في معتقل الرضوانية ومورست معنا شتى أساليب التعذيب الجسدي والنفسي ، ناهيك عن الجرائم البشعة ألتي ارتكبها المجرم هشام صباح الفخري وقادة الأجهزة الأمنية والحزبية ومن معهم من رعاع وبلطجية لايمتلكون شيئاً من الرجولة والإنسانية ، لم أكن شامتة أبداً وأنا أنظر لهم ولحالهم الرث الذليل في قفص الاتهام بل كنت شاهدة حيّة على موت ضمائرهم وهكذا كنت ضحية الأمس بمواجهة جلاديها ولكن بموجب قانون صادر عن مؤسسة قضائية وليس استهتاراً بمصير شعب أعزل كما فعلوا وبلا أي مسوغ قانوني . إنها نهاية كل الطغاة في العالم بالأمس واليوم وغداً .
ترييف المدينة
الآن كيف تنظري للمدينة ومتغيراتها في الصورة ؟
- لا أخفيك خشيتي على المدينة العراقية خاصة بغداد كعاصمة ، بل وسائر مدن العراق من ظاهرة الترييف، أنا مع إنسان الريف وحقوقه لكنني لست مع ترييف المدينة إذ أخذت ملامحها العريقة تتلاشى ، انظر لظاهرة واجهات البيوت التي تشبه القلاع ستجدها شبيهة بصناديق سود وزنزانات سجون، الألوان صارخة وأخرى قاتمة خالية من أي لمسة جمالية ، الشناشيل التي تحمل دهشة في زخارفها غربت ، هناك أهمال ولربما مقصود لمحو كل ماهو جميل ومؤسس على وفق فنون العمارة ، بل وحتى اللهجة القادمة من الريف أخذت تتسيّد المتداول في أحاديث الناس .