TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: بروميثيوس أم فاوست ؟

قناديل: بروميثيوس أم فاوست ؟

نشر في: 23 يناير, 2021: 10:19 م

 لطفية الدليمي

لاتكادُ تغيب عن بالي صورة الفيزيائي اللامع ( روبرت أوبنهايمر ) الذي قاد مشروع مانهاتن لصنع القنبلة الذرية وهو يشهد أول تفجير ذري في تموز 1945 . وقف الرجل حينها كاتماً أنفاسه ، واستذكر أبياتاً من كتاب الباغافاد غيتا ( الكتاب المقدّس للهندوس ) تقول : الآن أصبحتُ الموت ، مدمّر العوالم ! .

يحضرني في صورة مقابلة لصورة أوبنهايمر / البطل الاميركي صورته مع الرئيس الاميركي ( ليندون جونسون ) وهو يقلّده وسام الحرية عام 1966 . كان أوبنهايمر حينها حطاماً بشرياً متهالكاً لايصعب علينا أن نراه تجسيداً لمعاناة نفسية مريرة وندم قاتل جعلا من أوبنهايمر ، الشاب الوسيم الذي ينبئ بمستقبل أكاديمي رفيع ، ينتهي إلى تلك النهاية البائسة . لم يعش أوبنهايمر طويلاً بعد ذلك ؛ فقد مات عام 1967 متأثراً بسرطان قاتل وهو لم يتجاوز الثالثة والستين من عمره .

هل كان أوبنهايمر تجسيداً لكائن فاوستي أم بروميثيوسي ؟ هل رأى في ذاته كائناً يعمل على دفع العلم خطوات إلى أمام أو أنه باع نفسه لشيطان فاوستي ؟ نعلم أنّ المقصلة الماكارثية طالت أوبنهايمر ولم يشفع له كونه عقلاً أدار مشروع مانهاتن بكفاءة وجعل أميركا تحوز السلاح النووي قبل غيرها من البلدان ، وقد بلغ الأمر حدّ إخضاع أوبنهايمر لسلسلة محاكمات مخزية شهد فيها بعض أقرب أصدقائه عليه شهادات أطاحت بمكانته العلمية وعاثت في روحه تدميراً متوحشاً دفعه إلى حافة اليأس المميت .

يدلّنا واقع الحال وخبرتنا البشرية أنّ الحدود الممكنة لكلّ من المنجز العلمي ( البروميثيوسي ) والتفلّت ( الفاوستي ) من كل محدّدات أخلاقية هي حدود لانهائية ؛ إذ ما إن يتحقق هدف علمي أو تقني حتى تنفتح الآفاق أمام أهداف أخرى أبعد مدى من سابقاتها . هذه هي الحقيقة إذن في صيغة ثنائيات مشتركة : تطور لانهائي في مقابل موت شامل، وقدرة فائقة على الإرتقاء بالحياة مقابل قدرة فائقة على الإماتة والقتل والتدمير. هل باتت حياتنا رهناً بمقامرة فاوستية لامجال فيها لربح ( بروميثيوسي) خالص إلا مقابل خسارة فادحة بسبب مقامرة فاوستية ؟ هل استحالت مسيرة العلم المبشّرة بملحمة بشرية بروميثيوسية كابوساً ديستوبياً مؤرقاً ؟

كلنا نعرف أن السياسيين مقامرون فاوستيون بصيغة أو بأخرى: هم يفضّلون النتائج السريعة التي يجتنون منها مكسباً على الجهود طويلة الأجل التي تتطلّب تضحيات بالمواقف الآنية، وقد أبانت الجائحة الكورونية أنّ هذه البراغماتية السياسية القبيحة التي لو كنّا قبلناها من قبل على مضض فلن يكون مقبولاً الإبقاء عليها في قادمات الأيام .

يعتمد مستقبلنا على اتخاذ خيارات حكيمة بشأن التحدّيات المجتمعية المفصلية : الطاقة، الصحة، الغذاء، الروبوتيات، البيئة، الفضاء، وسواها . هذه الخيارات تعتمد العلم بالضرورة ؛ غير أنّ القرارات الجوهرية لاينبغي أن يتخذها العلماء وحدهم دون سواهم لأنّ تلك القرارات تهمّنا جميعاً ولابد في كلّ الأحوال أن تكون حصيلة ناتجة عن مناقشات جمعية شاملة واسعة النطاق، وإلى أن يتحقّق هذا الأمر على أرض الواقع بفاعلية مؤثرة نحتاج جميعاً لتطوير " شعور " جمعي تجاه الأفكار الأساسية في العلم فضلاً عن امتلاك بصيرة مدرّبة تؤهّلنا لتقييم المخاطر والإحتمالات والمآزق وعلى نحو يجعلنا محصّنين - بقدر مايمكن - من الوقوع في شرك الخبراء التقنيين ذوي الأجندات الخاصة أو الشعبويين الذين لايجيدون سوى تمجيد الشعارات الكبيرة الخاوية التي دفع أوبنهايمر حياته ثمناً لمقامرتها الفاوستية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

عمليات بغداد تغلق 208 كور صهر و118 معمل طابوق وإسفلت

أسعار الصرف اليوم: 143 ألف دينار لكل 100 دولار

ترامب: أوقفتُ 8 حروب وأعدتُ "السلام" للشرق الأوسط

الأنواء الجوية: انتهاء حالة عدم الاستقرار وطقس صحو مع ارتفاع طفيف بالحرارة

حصار فنزويلا ينعش النفط… برنت وغرب تكساس يقفزان في آسيا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram