لطفية الدليمي
كم أحبّ تلك العبارة الرائعة التي أوردها شكسبير في هاملت ، وفيها يخاطب هاملت هوراشيو : "هناك أشياء كثيرة في الأرض والسماء ياهوراشيو غير التي حلمت بها في فلسفتك" .تصلح هذه الأمثولة الشكسبيرية أن تكون موجهاً عقلياً ونفسياً بضرورة التغيّر وعدم الانكفاء في جحرٍ فكري عتيق.
نعم، قد لانتغيّر بالضرورة؛ لكن علينا في الأقل أن نعترف بأهمية التغيير وبخاصة في عصرنا الذي يشهد مستجدات متسارعة يحفّزها العلم والتقنية.
أقرأ صباح كلّ يوم مجموعة منتخبة من الصحف العربية والعالمية، ويتركّز اهتمامي على الموضوعات الثقافية، وقد تراكمت لدي خبرة أحسبها معقولة في تحسّس الأنماط الثقافية التي صارت معالم مميزة لكاتبات وكُتّاب معروفين، وكثيراً ماأتساءل : هل يمكن أن ترد مفردة (الذكاء الاصطناعي ) في كتابات هؤلاء ؟ لاأريد القول بضرورة الكتابة العلمية أو التقنية المباشرة ؛ لكننا نعيش اليوم وسط بيئة صار العلم والتقنية عناصر صانعة لنمط الحياة فيها، ولم يعُد اشتغالاً فوقياً مثلما كان الحال في العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين . لستُ في حاجة إلى التأكيد أنّ مثال ( الذكاء الاصطناعي ) إنما أوردته كمثال بين أمثلة كثيرة لعلّ ( الثقافة الرقمية ) أهمها وأكثرها شيوعاً في أوساط الانتلجنسيا الثقافية .
تقرأ لفلان أو لفلانة ويكاد الظن يراودك أنّ العالم مازال يعيش وسط بركان الحركات الشبابية نهايات العقد الستيني من القرن العشرين حيث الإندفاع الجامح لتجريب كلّ المكيفات العقلية والصرعات الغريبة والثورات المنفلتة الساعية لشحذ نيران الحرب الباردة في شقها الآيديولوجي عبر مناصرة أحد أطرافها وإن بطريقة لاشعورية، بغتة يأتيك إشعار على هاتفك النقال لينتشلك من خضم الستينيات المتلاطم ويعيدك إلى عالم الثورة التقنية الرابعة. وتدرك أن قراءتك كانت أشبه بحلم ليلة ستينية من القرن العشرين حيث يتشبث بعض الكتاب والكاتبات للبقاء هناك تحت أضواء الأمس.
بعيداً عن ذكريات العنفوان الآيديولوجي والانغمار في أتون حروب حقيقية (الحرب اللبنانية مثلاً ) كثيراً مايواجهنا نمط كتابي لايكاد يفارق نمط التغنج الفضائحي والنميمة المجتمعية وتوافه القيل والقال : الرئيس وخليلته في بيت الرئاسة، فلانة تتزوج فلاناً يصغرها بثلاثين سنة، رسائل عشق مخبوءة تكشف مصادفة أو عمدا، الوسيمون وأفاعيلهم التي جعلتهم أنصاف آلهة. الكتابة هنا صارت أقرب إلى توصيف لكائنات بطرة تبلّدت عقولها وأقفلت عيونها واستحالت أعضاء حسية متضخّمة .
أين يعيش هؤلاء الكاتبات والكّتّاب ؟ هل هم كائنات أسطورية تخاطب القرّاء وهي منكفئة في مغارة عربية أو أوربية ؟ لماذا صاروا كائنات واحدية البعد (بالتعبير الماركسي الذي أورده هربرت ماركوز )؟ كثيراً مايعجبني عقدُ رهان مع نفسي ( ليكن رهان المليون دولار ؛ فماذا يهمّني ؟) : هل سأقرأ يوماً مقالة لهؤلاء يرد فيها مايشير إلى قراءة عميقة لتفصيلة معيّنة من الثيمات الكثيرة التي باتت تشكّل حيواتنا ؟ ما الكتب التي يقرأها هؤلاء ؟
أهي رغبة نوستالجية دفينة لأيام كان فيها هؤلاء ملء السمع والبصر، يلعبون فرادى في ساحة كانوا فرسانها الجموحين ؟ سيتحجّج البعض أنّ نمط الكتابة الصحفية (الخفيفة) تستلزم هذه الاهتمامات العابرة . هذا رأي خادع. الخفة هنا ليست سوى قناع يخفي نقص الاعدادات المطلوبة للتعامل مع عالمنا الجديد ومتغيراته . نقرأ الكثير مما يكتبه روائيون وكُتّاب عالميون في كبريات الصحف والمواقع العالمية، فنكتشف حجم ( الثراء ) المعرفي الممتع فيما يكتبون .
أشياء كثيرة في الأرض والسماء لايعرفها هؤلاء الكاتبات والكُتّاب . ذاك أمرٌ طبيعي يحكمنا جميعاً ؛ لكن أن لايسعوا لمعرفتها أصلاً ، فتلك هي المشكلة !