ستار كاووش
صحوت مبكراً ذات صباح، حيث كانت الساعة تقترب من السابعة، والعتمة مازالت تغطي ملامح الغرفة المغلقة، فاتجهتُ ببطء نحو النافذة والباب المؤدي للشرفة وفتحتهما بعد أن أزحت الستائر، فغمرني الضوء الذي امتزج بهواء الحقل الذي يقبع خلف البيت،
وفجأة انتبهتُ لحزمة ضوء تتسلل بِرِقَّة واستقامة داخل الغرفة، وبَدَتْ -بعد أن امتزجت ببعض الغبار- مثل خيط ذهبي انبثق بمهارة من عصا إحدى ساحرات القصص الخيالية، لتستقر هذه الحزمة في النهاية على حافة السرير، مُكَوِّنَة قمراً صغيراً بحجم الرغيف، ولم أكد ألقي نظرة على هذا المشهد الساحر، حتى تطور الأمر بسرعة كبيرة، وحدث ما لم أنتظره أبداً، شيء لا يمكنني وصفه سوى أنه السحر بعينه. ففي ذات اللحظة التي وضعت فيها قدميًّ في الشرفة، باغتتني فراشة وخطفت أمام وجهي وهي ترفرف بجناحيها، لتدخل برشاقة غرفة النوم، حدث ذلك بسرعة فائقة، وكأن تلك الفراشة بلونها البرتقالي المبقع بالأسود كانت تنتظر اللحظة التي أفتح فيها النافذة، وبعد أن دارت بضع دورات داخل الغرفة، حطت بطمأنينة على حافة بقعة الضوء التي استقرت على السرير وأخذت تحرك جناحيها ببطء. هالتني قوة هذا الجمال وتأثير هذا المشهد، فاقتربتُ منها بهدوء، وأحسست للحظة بأنها تنظر اليَّ. تأملتُ هذا الزائر الغامض لحظات اختلط فيها السحر بالمفاجأة. وفي غمرة انسجامي مع رقة المشهد، لم تمنحني هذه الفراشة المزيد من الوقت لفهم ما حدث، لتطير من جديد نحو النافذة وتعبر الشرفة وتختفي بين الأشجار وهي تترنح بجناحيها تحت الشمس.
منذ تلك اللحظة التي لا تنسى صارت الفراشة بالنسبة لي رمزاً لكل شخص أفقده أو أفتقده، وكلما اقتربت مني فراشة بطريقة ما، افكرُ بأختي بلقيس، أحد أفراد عائلتي، أو تخطر في ذهني صديقة بعيدة أو صديق قديم تركته يتسكع في شوارع بغداد. ولم تخفت هذه الرمزية العالية ولم تفقد بريقها مهما مرت السنوات، حيث تكررت مشاهد من هذا النوع صحبة فراشات بألوان مختلفة، وأنا بطبيعتي بدأت انتبه أكثر كلما اقتربت مني فراشة، لأحدس وأتخيل ما ترمي اليه هذه الكائنات الساحرة، وأخذت أطلق عليها أسماء الأشخاص البعيدين والذين فرقتني عنهم الظروف والمدن وظروف الحياة، فهذه فراشة حميد قاسم وتلك أرسلها جبار أحمد وثالثة جاءت من صبيح عفوان وأخرى تعيدني لعبد الرحيم ياسر أو صباح والي وغيرهم من الأصدقاء.
رسمت الفراشة في الكثير من اللوحات وبطرق مختلفة، وحين أقول بأن لوحاتي تحمل الكثير من الرمزية فأنا أعني ذلك تماماً، والأمر واضح بالنسبة لي مثل ذلك الضوء الذي استقر على حافة السرير، والرمزية هنا هي بتحويل شيء صغير مثل الفراشة الى كائن بشري يشعر ويتنفس مثلنا، أحولها الى رسول جمالي وهي توصل لي أخبار أصدقائي من بعيد، إنها تشبه فتاة صغيرة تزورني بطريقة غامضة وتترك انطباعاً لا يُمحى من الذاكرة، تترك رسائل بيضاء أملؤها بنفسي بأسماء أصدقائي البعيدين.
حين جلس صديقي كارل ذات يوم أمامي كي أرسم له بورتريت، وقفتُ اتأمل تعابير وجهه وهو يمسك بآلة التشلو، وشعرتُ أن فراشة تحط خلفه على حافة سياج الحديقة، (ياالهي!) هكذا قلتُ مع نفسي وأنا أفكر بحبيبته رينا التي تركته وحيداً يأمل كل يوم بعودتها من جديد، فرسمتُ تلك الفراشة كرمز يشير الى رينا التي ستعود في يوم قادم. أما حين تعرفتُ على أليس في سنوات بعيدة مضت، صارت هي بالنسبة لي كل الفراشات مجتمعة في فراشة واحدة، لذا كانت هديتي الأولى لها عبارة عن قنينة نبيذ رسمت عليها فراشة. هكذا كانت الفراشة وما تزال أحد رموز الجمال والإلهام والاحتفاء بالحياة والأصدقاء والمحبة. إنها تلويحة تفاؤل تأتيني من سماء بعيدة، ويجب عليَّ أن أعيدها بهيئة لوحات ورسومات يملؤها الود ومعطرة بالامتنان.