طالب عبد العزيز
كانت صورة حذاء الجندي في الجيش المحتل، وعبر تاريخ الاستعمار، تمثل طعنةً في الوطنية، وإذلالاً موجعاً للسكان، وانتهاكاً للسيادة، وما إلى ذلك من مفردات القهر، ومع نيل الدول المحتلة استقلالها، ونهاية الاستعمار بصفته تلك، شهدنا توازناً وطنياً وانسانياً، عند الشعوب المقهورة، التي تمكنت من دخول عصبة الأمم، ومن ثم مبنى الأمم المتحدة، وصارت تتمتع بصفتها الدولية، أسوة بدول العالم.
ربما كانت بغداد آخر المدن التي أُحتُلت في العصر الحديث، بنيسان 2003 وفرضت جيوشُ التحالف الدولي، بقيادة اميركا وبريطانيا سيطرتها على كامل التراب العراقي، ثم جاءت بمن كانوا معها من العراقيين ونصبتهم حكاماً، في عملية مفضوحة وهزيلة، أعقبها اختفاء شبه تام للحذاء العسكري، ثم تقلّص الوجود المسلح، ليحل محله الوجود المدني، عبر عملاء (منتخبين) وبصبغة ديمقراطية مشوهة أيضاً، ندركها، ونعلم تفاصيلها العميقة كلها، ومهما بالغنا في التعامل مع صورتها القبيحة هذه، إلا أنها كانت ستختفي بشكلها المذل، لو أننا إمتلكنا النخبَ السياسية الوطنية، التي تتعامل مع الاحتلال، على وفق ما تعاملت به البلدان التي احتلت في السابق، لكننا، لم نحظ إلا بمثل هؤلاء.
إذا كانت اميركا قد احتلت العراق فأن إيران اغتصبته، والفرق كبير بين الاحتلال والاغتصاب، بل، المسافة شاسعة بين القتل والاغتصاب، فربما تمكن العراقيون من طرد الاحتلال، والاحتفال بتحريرهم منه، إلا انَّ عار الاغتصاب بحسب العرف العراقي، لا يغسل بالماء، ولا يطْهُر بالزمن. الحياة العراقية برمتها انقلبت رأساً على عقب اليوم، والمدن لم تعد كما كانت قبل العام 2003، هناك تشويه في بنية المجتمع العراقي، جرى الإعداد له في غرف مظلمة، والأمر الذي بلغناه ما كان له أن يكون هكذا، لو لم تتدخل إيران بكامل ثقلها الظالم فيه.
حين تنشب نبال ثقافة الحلال والحرام في نسيجك الاجتماعي، ويتدخل التشريع، الكاذب بصورته التي تعرفها عن قرب، بأدق تفاصيل حياتك، ويتحكم بك ابنك الفاشل، وشقيقك المتخلف، وابناء عشيرتك المشوهين فكرياً، وعقائدياً، وكلهم يجمعون على فساد معتقدك في الوطن والانتماء والانسانية بدعوى إنك تخالف الجمهور، وإن سلطة الغيب أكبر من الوضوح الذي تعاينه، وأنت العارف، العالم، الوطني، المخلص والنَّقي. حين يكون حبل الحلال والحرام معلّقاً برقبتك، ستكون قد أُغتصبت بأطهر وأعفِّ نقطة في بدنك، عندها ستتحسس الدم وهو يسيل من قحف رأسك الى أخمص قدمك، الدم الذي يظنونه يُطهّرك ويدخلك الفردوس، الذي لا وجود له إلا بين سراويلهم.
تُغتصب الشعوبُ حين تعتقد بانَّ أفراحها في تراثها، ومعالمها في البناء، وموسيقاها المحفوظة في القلوب، ورقصها في مواسم نجاحها وانتصاراتها حرامٌ يجب محوه، ويتوجب إهماله، وتغتصب حين يكون الاعتقاد بأن الانتماء للتراب والتاريخ منقصة في الدين، وتغتصب حين يكون قرع طبل في مناسبة سعيدة إتيان معصية، وتغتصب حين يكفُّ العراقي حديثه عن الحضارة السومرية، والبابلية، والأكادية، والآشورية، وبلاد الرافدين، والميزوبوتيميا، وبغداد، والعصر الذهبي، والدولة العباسية، وحين لا يكون الحزب الشيوعي عنواناً للنضال، وعبد الكريم قاسم زعيماً وطنياً، ودجلة والفرات وشط العرب مقدسات تستحق الخشوع.