لطفية الدليمي
تتوهج في أذهاننا كلما أتى أحدنا على ذكر غاليلو تلك العبارة المقتضبة التي قالها وهو يهمّ بمغادرة قاعة محكمة التفتيش التي عقدت جلسة لمحاكمته عن هرطقة مزعومة نُسِبت إليه ، " لكنها تدور " :
عبارة من كلمتين فحسب قالها غاليليو ؛ لكنها تنطوي على حمولة درامية فاجعة، يبدو فيها غاليليو وكأنه أراد التبرؤ من وطأة ماصرّح به أمام لجنة التفتيش (حين اعترف مرغماً بعدم دوران الأرض حول الشمس) فأدرك ماسيترتّبُ على تصريحه هذا من نتائج مشينة ستثقل ضميره وتقوده إلى مصير رآه ماثلاً أمامه . وأغلب الظن أنّ غاليليو إستشعر دنو موته المحتّم بعدما خالف ضميره ؛ فكأنه أراد بعبارته الصغيرة هذه أن تكون ترياقاً مضاداً لعذابه وذبول روحه .
الضمير كائن يقظ ، متأهب ليحصي عليك أنفاسك وأفعالك . قد يكون الضمير موضوعاً فلسفياً أو مبحثاً في الأخلاقيات ، وربما هو ميزة بشرية استلزمتها مسيرة البيولوجيا التطورية للحفاظ على الديمومة النفسية الدافعة للارتقاء البشري ؛ لكنه يبقى كينونة حقيقية يمكن اختبارها وتلمّس تأثيراتها الحاسمة.
يُنسّبُ إلى الروائي الروسي بوريس باسترناك نص رائع يقول فيه:
"صحتك تتأثر إذا اضطررت يوماً بعد يوم أن تقول عكس ما تحس ، أن تنحني أمام ما تكره ، أن تفرح بما لا يجلب لك إلا الشؤم . جهازنا العصبي ليس خرافة ؛ إنه جزء من جسدنا ، وروحنا توجد في مكان ما داخلنا ، كالأسنان في فمنا ، لا يمكن التعدي عليها باستمرار دون عقاب . "
كلما قرأتُ مثل هذه النصوص تكاد تسري رجفة في أوصالي. هذه ليست كلمات عابرة يدونها روائي يريد تسويد الصفحات وحسب ؛ بل هي كلمات تنبئ عن خبرة مكتنزة تليق بروائي أقلّ مايوصف به هو أنه " روائي حقيقي " : ضميرنا ليس كذبة؛ وإذا ماعمدنا إلى خداعه والالتفاف عليه أو تسكينه بأكاذيب أو تلفيقات فسيرتد علينا لاحقاً بصيغة عقوبة تتجلى في اضطرابات جسدية مرتبطة بشكل مباشر باضطرابات نفسية. أجسادنا ذكية، وهي نتاج فعالية تطورية امتدّت آلاف الأعوام، ولايصحّ أن نتذاكى عليها أو نخادعها. القانون الحاكم في هذا هو أنك لست أذكى من جسدك ، وليست لك سطوة على ضميرك . جرّب أن تلعب معه وسترى لاحقاً أي مأزق خطير أوقعت نفسك فيه ، وستندم بعد أن ينالك جرحٌ نفسي قد يصعب الشفاء من آثاره.
لماذا لانتعامل مع ضمائرنا بشفافية ؟ الأسباب كثيرة ، أهمها الخوف من التصريح بالحقائق المكشوفة أمامنا ، ثم بعد ذاك يأتي الكذب ومحاولة خداع الذات طلباً لفائدة سنكتشف لاحقاً أنها ضريبة كبيرة أثقلت على الضمير ولم تكن لتستحق هذه التضحية بسلامة العقل والروح .
المرء هو المسؤول الأول عن مخادعة ضميره والوقوع في فخّ هذه المصيدة القاتلة ؛ لكن ثمة حكومات تدفع مواطنيها دفعاً إلى ممارسة نوع من الخداع الجمعي ، وهو ماينجم عنه نمط من موت الضمير الجمعي حتى لكأنّ هذه المجتمعات تستحيل معسكراً لكائنات سايكوباثية معطوبة الجسد والعقل والروح .
ضميرنا ليس لعبة نتلهّى بها وقتما نشاء ونطرحها في سلة المهملات آخر الأمر . إنه تكوين ذكي يتفاعل مع كلّ مؤثرات حياتنا ويستجيب لها بطريقة تفاعلية تترتب عليها نتائج خطيرة، ومالم يطهّر المرء ضميره بين آونة وأخرى من عواقب مناورة قد لايرضاها في أعماقه أو يرتجي منها منفعة متخيلة فليعلم أنه يرعى في أعماقه حشرة " أرضة " ستقوّضُ بُنيانه في نهاية المطاف .