حيدر المحسن
الرواية الأشهر بيننا هي "الرجع البعيد"، فيها نظرة فاحصة وغير متحيزة للحياة السياسية في العراق، وكيف قُتل الرجلٌ الذي رأينا رسمه في صفحة القمر:
"كانت الانفجارات تصكّ الآذان، عالية في ذلك المكان المفتوح؛ وكان الجوّ الجميل والسماء الصافية الزرقاء يوحيان بفرح طفوليّ لا وجود له على الأرض".
إنه يوم 8 شباط، السماء اختلفت فيه مع الأرض، كما تخبرنا الرواية، وسوف يستمرّ الخلاف منذ فجر ذاك الاثنين الذي كان يشبه أيّ فجرٍ بغداديّ هادئ، لكن ما جرى فيه يوثقه أهل العراق دقيقة دقيقة، ولحظة بلحظة؛ عند الثانية ظهراً يحضر حسين – أسماء شخوص الرواية معروفة لنا – إلى البيت الذي يضمّ العجوز، والحاجّ، ومدحت:"الأخبار رهيبة مدحت. رهيبة" يقول حسين, وكان يأكل تشريب الطماطة، والمرق الأحمر يلوّث فمه وشاربه وقسماً من خدّه. يتابع: "لكن راح يروحون ضحايا هواية. على بختك. عامي شامي".
لا أريد الحديث عن الرواية، لأن النقاد أشبعوها شرحاً أكثر من أيّ كتاب أدبيّ آخر، ولا أتكلم عن العامي شامي؛ طريقة موت العراقيين التي صارت امتيازاً منذ ذلك التاريخ: "كان الهدير بعيداً، مخيفاً مستمراً، ينصبّ في أذنيه من فم النافذة المفتوح. خطوات خفيفة في الباحة الخارجية. رشة من الطلقات المتتابعة؛ والهدير، الهدير. هناك مَنْ يدفع الباب".
ذكريات الأيام الحزينة التي عشناها، واخترقت قلوبنا، وتركت فيها آثاراً تقدم لنا المواساة، والتعزية. كأن ميتات العراقيين ليست سوى حوادث تتم بالصدفة، دائماً وأبداً. كان المطر يتساقط بحزن، والساعة تشير إلى ما بعد الثالثة والنصف، والانفجارات مختلفة الأصداء تتردد دون انقطاع. يلفّ الحاجّ نفسه ببطانية خضراء سميكة ويجلس على السرير، يحكي للا أحد قصة حياته. هنا يبدأ الفصل الأكثر إثارة وأهمية في الرواية، في رأيي، ولم أجد لدى النقّاد التفاتة جادّة للحلم المديد الذي كان الشيخ يعيشه، ويرويه لزوجته بكلمات تختلط فيها العربية مع التركية:
"بالكوت جانم. بحصار الكوت، داعيك موجود. وصلنا من قصر شيرين إلى السبيليات".
كان الأتراك يقاتلون الروس، وفاجأهم اندفاع الإنكليز في العراق. يقرّر خليل باشا انسحاباً سريعاً من تلك الجبهة لغرض مجابهة الجنرال طاونزند وردّه إلى مدينة الكوت، حيث أحكم عليه الحصار. يروي فؤاد التكرلي الأحداث عن طريق استبطان الوقائع المأساوية، وإدخالها في اللغة؛ الوقائع عرجاء، واللغة المستعملة عرجاء:
"نبديد. هلكان وصلنا. راسي خليت على إيدي ونمت جانم مثل زمال على الكاع، بالطريق العام. جا الخيل راد يسحكني".
يلتفت الحاج في الأثناء إلى الماضي بتبجيل وتسعد روحه وهو يتذكر أسماء الجنود القتلى من العراقيين:
"خريبط مخربط دشر. كلاص بطوش. معيدي ندوان واوي".
عامي شامي. الموت يضربنا جميعاً. من الشمال والجنوب والشرق والغرب. عامي شامي. كان الحاج يتلو الأسماء بطريقة الإنشاد، وهو يهز رأسه:
"فراكه جثير عراك. شبوط سماري".
يتداخل الكابوس مع الواقع، ولا يميّز الشيخ بين وقائع الحرب وأحداث يوم الاثنين. سمع انفجاراًعالياً، كأن الأرض تحته اهتزّت، لكنه يبقى يتذكّر الجنود:
"شناوة عيال مناتي. حميد حنون دالبوري".
سؤال: لم يؤكد التكرلي على الأسماء القديمة، المندثرة تقريباً في الوقت الحاضر؟
في كل حقبة زمنية يموت جزء من الماضي، ماضينا، ويقوم غيرنا بدفنه بطريقة لا مبالية. المغول كانت لهم حصة. الأتراك. الإنكليز. العسكر.
الأميركان... هل يحلّ يوم نكون فيه، نحن العراقيين، بلا ماضٍ؟ ينسى الحاج الاسم الكامل لأحد الجنود:
"جحف.. جحف.. شنو؟".
بينما كانت تنمو في نفس الوقت ذكرى آخرين جيداً في روحه:
"مكوطرد مدهوش. ويكان دخينة شذر. بطي ماجود".
كان البيت يهتزّ بالانفجارات، والهواء بارداً في الحوش, الطلقات تلعلع.
يجهد الحاجّ أن يتذكر الاسم كاملاً، ويفشل:
"جحف.. جحف.. شنو؟".
ثم يبطئ في الكلام، وتتوقف حركة رأسه. ينام، ويطلق شخيراً يعلو على صوت الرصاص.
الجحف هو مَنْ لا يذكر أحد أباه، ومن ننساه جميعاً، وهو الجزء من الماضي الذي يسلبه الغزاة منا، فهنيئاً لهم.
ظهرت أقمار كثيرة، وغابت أقمار كثيرة، ويبقى القمر الذي رأينا فيه زعيمنا الأوحد ماثلاً في سمائنا إلى الأبد.