علي الياسري
حدث ذات مرة أن ارتفع وجودها فوق بركة ماء قبل أن تغدو مع الزمن قلاع ومصالح عيش ثم قصوراً لنبلاء بغرف واسعة موحشة.
كانت ومازالت تتنفس بين الجرف واليَّم تاريخاً من بناء وهدم وإعادة تشكُّل. على أرضها السرمدية تتكثف حياة الحب لومضة تتوهج جذوتها كلما ارتفع بناء أو تبدل معمار المكان تبعاً لتعاقب العصور وخيارات الفرد المتمايل في لجّة الأفكار الصاخبة، ومع كل ذلك يبقى الجوهر نقياً يحتفظ ببراءة الحضور الأول. إنها برلين بعيون المخرج الالماني كريستيان بَتسولت حين ألبسها ثوب أسطورة (أوندين) فغدت صورتها السينمائية ملحمية السرد تنضح عاطفة أصيلة، وثاق الارتباط فيها ينبثق بلحظة الانفصال حبال وحدة أبدية عمّدها قدر محتوم. ضمن هذا السياق سنجد أن أوندين كلما اقتربت من الماء إلا ودخلت عالمها الفريد الموغل بالقدم، وعبر أثير الفنتازيا يطرق سمعها صوت روح الحاضر الآدمي فتنجذب لضفة البَّر تقتفي أثر قلبها.
يستعيد بَتسولت ببذخ عاطفي لذة الحب الكلاسيكية، لقاء عابر وحدث غريب، جلسة حالمة في محطة قطار نائية بين أحضان الطبيعة، شهقة عاشق لحظة وداع. كل تضاريس الهوى تتجسد في (أوندين)، يضيف إليه الكثير ذلك التناغم بين باولا بير وفرانتس روغوفسكي حيث تماهياً مع المحتوى الشعوري لطبيعة الشخصيات لإظهار أداء مُعبر يقف على حافة الواقع ويفتح بذات الوقت باباً سريالياً يتيح لتجليات الأسطورة الدخول بسلاسة للمسار الدرامي. يؤسس فيلمه وفق رؤية ميثولوجية وضع قواعدها براكلسوس والتي تقول إن العناصر الأربعة (التراب، الماء، الهواء، والنار) تسكنها أرواح أولية لها الكثير من شكل البشر ويعيشون بعوالمهم الخاصة. أوندين مخلوق مائي تتوق لحياة فانية لن تصلها إلا بالارتباط مع إنسان، غير أن هذا الأمر مشروط بعدم تخلي الرجل عنها وإلا فمصيره الموت. ما أضافه الصانع لحكاية فيلمه أن جعلها جوهر المدينة النابت على الماء روحاً أزلية. استعارة الهمتها له قصة (أوندين تذهب) من المجموعة القصصية (العام الثلاثون) للكاتبة النمساوية إنغبورغ باخمان.
في سينما كريستيان بَتسولت يمكن للماضي أن يتعايش مع الحاضر ضمن هوسه في جمع المتناقضات، وعليه تلتقي الحكايات الخرافية بلا عناء مع الواقع. فليس أفضل من أوندين لتصبح مؤرخة تعمل في مجلس التنمية العمرانية وتقدم محاضرات عن التطور الحضري لمدينة برلين، وكيف أثرت الحروب والسياسة والأيديولوجيا تاريخياً على شكل الهندسة المعمارية للبنايات. تُخصص الوقت الكافي لشرح حكاية قصر برلين الذي يعود للقرن 15 وكيفية إعادة بناءه حالياً بتمازج بين الحداثة واِرثه التراثي. يتتبع المخرج بالصورة بصمات الفعل الإنساني على روح المدينة مثلما يفعل الحب بقلوب البشر أو المخلوقات الأسطورية. يتلمس حركية الزمن ومظاهر تبدل شكل الأمكنة والتي كلما اقتربت من الاندثار لسبب أو آخر إلا وابتكرت رفقة عشاقها حيلة للنكوص عليه لذلك فالتقادم مستحيل كما تروي أوندين بالفيلم. فالمدن والمباني يتغير وجهها باستمرار لكنها تحتفظ دوماً بجوهر تكوينها الأساس لتنبعث منه كل مرة، وما علاقة أوندين وكريستوف إلا جزء من لوحة المدينة الكاملة. "الفيلم عن برلين". أحببت التناقض. برلين الرصينة تواجه قصة حب مثل هذه. رغبتُ بإنشاء قصة خرافية عن المدينة لكي أُظِهر أن الحكايات الأسطورية يمكن لها أن تكسر وحشية الصرامة البروتستانتية البروسية." لقد أعطى المخرج الكاتب لشخصيات نصه السينمائي القدرة على إيجاد سحر العاطفة بثنايا الأماكن التي تحيطهم حتى أنه خلق مدينة تحت الماء كمهرب من عالم مادي حديث يلتهم النفوس ويُقصي المشاعر.
بثنائية الماء والحب المرتبط بالمكان يغامر بَتسولت دون تحفظ باختراق أبعاد الزمن من معيار فانتازيا رؤيته السينمائية لا من وجهة نظر العلم حتى لا يكسر إيقاع الخيال، فيحاول النص من خلالها طرح صورة الوشائج مع المدينة بمقاربات تاريخية معمارية واجتماعية سياسية وذاتية عاطفية في مفارقات درامية تحاكي التعبير العميق والمآثر الموسيقية ليوهان سباستيان باخ الذي لا يستلهم ويستثمر إحدى مقطوعاته (المؤلفة اصلاً تحية تقدير لمدينة) في الفيلم كموسيقى تصويرية فحسب بل يحاور قدرته على خلق التناسق لموضوعاته المتضادة، مشكلاً العالم الخاص بكل لحن دون أن يفقد آصرة الارتباط بالبقية. وكما أن التطابق الصوتي المتعدد الطبقات لا يتوقف عن الملاحقة (الفوغا) فإن المسار السردي للشخوص يتحرك في أكثر من اتجاه مبرزاً طبيعة العلاقة مع المكان والنظرة للأحاسيس حين تغدو الأرواح مأسورة لتاريخها وصدف الحياة الفارقة. يغذي فيلمه أيضاً بالكثير من التعابير البصرية الساعية لإمساك سر المدينة، فيستعرض مجسم برلين على الجدار وكيف يتغلغل الماء في أروقتها مثل شرايين حياة يتدفق فيها النسغ الأبدي. ينزل الى عمق البركة ليكشف أصل وجودها المُعَلم عليه أأسم أوندين وقلبها. ورغم ذلك يبقى الغموض ثيمة أساسية في الفيلم لأن نشوء برلين الأول ظل لغزاً ومثله أوندين وحياتها السابقة التي كلما أخذها جوهرها غير البشري خارج نطاق الواقع الراهن بمعارج تواصل مع حدث قادم إلا وأشار إليه المخرج بلمسات تداعب السمع من تفاصيل يوميات العيش بالمدينة كدقات ناقوس كنيسة أو نغمة هاتف أو صافرة قطار أو رنة جرس دراجة هوائية، تنعكس عليها لاحقاً بمتناقضات المشاعر التي يعشق بَتسولت التوغل فيها بحكاياته كالخوف والطمأنينة والحزن والفرح والحب والكره والتسامح والانتقام.
المُطلع على أفلام المخرج بَتسولت سيُدرك أسلوبه في مزج الماضي بالحاضر ومقاطعتهما من أجل تكثيف زخم أحاسيس تستلهم أجواء غرائبية تدفع مسار السرد الى نهاية تراجيدية لتستخلص حكمة قوة الوثاق الإنساني الممهور بالتضحية. في (أوندين) يجعل التنبؤ صعباً بما ستتخذه الأحداث بمسعى لاستفزاز ذهن المشاهد ودفعه لربط خيوط الشخصيات وتناقض المواقف وتطور العلائق وتبدلات معمار المكان وذلك لإدراك ما تعنيه المدينة كروح تغمر أبناءها.