ستار كاووش
ما الذي يصنع ثقافة البلدان والمدن والناس؟ ما الذي يؤثر في طريقة تفكير الأشخاص واستجاباتهم الحياتية والجمالية؟ أشعر أن المناخ هو الذي يفعل ذلك كله، فهو من يكوِّنُ روح البلدان وإنسجامها، هو الذي يصنع أغانيها وحكاياتها وأمثالها الشعبية وطريقة عيشها.
كل شيء يتعلق بالمناخ، وكل الحياة مرتبطة بشروق الشمس أو غروبها، بالبرد أو الدفء، بالمطر أو الصحو، بتأثيرات البحر أو الصحراء، محاذاة الأنهار المشمسة أو الركون فوق قمم الجبال الباردة. كل شيء ينحدر من سلالة المناخ ويتفرع نحو حياة الناس مثل أغصان شجرة ظليلة، ويمرر يده نحوهم، كما تُمَرِر أم عظيمة وخالدة يدها فوق رؤوس أبنائها.
فكرت بالمناخ الذي يطبعنا جميعاً بطابعه، وأحببتُ أن أحدثكم عن هولندا التي لا يمر فيها يوم هكذا عفو الخاطر، دون الأمساك بما يحمله من إمكانات وخصوصية في صنع المتعة والجمال، والانغماس في الكثير من التفاصيل التي يتركها المناخ. ورغم أن كل شيء في حياة الناس هنا محسوبٌ تقريباً، لكن المناخ له طبائعه التي يعرفها الهولنديون جيداً، فكل فصل من فصول السنة يمر في هذه الأرض، يحمل سحرة وجاذبيته وشخصيته الفريدة. نعم إنها الأراضي المنخفضة التي عرفتها وخبرتها بشكل جيد، بفصولها الأربعة التي جعلت كل يوم في حياة الناس واضحاً وجلياً ومحسوساً، ليحتل كل فصل ثلاثة أشهر، ينتهي ويمضي بعيداً، ليخلِّفه الفصل الذي بعده، وكأنهم جنود دورية يتبادلون نوبات حراسة مناخ البلد فيما بينهم.
وبما أننا نعيش الآن آخر أيام الشتاء، لذا سأبدأ حديثي اليوم عن هذا الفصل وما تركه ويتركه من أثر. أنظرُ الى الثلج الذي نزل فجأة، وأشاهد الناس وهي تحضر أدوات التزلج وكأنها كانت مُهيئة من يوم البارحة عند الباب، هكذا أنزلوها من عليات البيوت بعد سماعهم أن الثلج سيزور البلد، ليهيؤوا أنفسهم للذهاب الى أماكن التزلج، حيث يوجد في كل مدينة أو قرية حوض كبير يشبه مضمار السباق الدائري، ويُشرف عليه (اتحاد التزلج)، يملأ بطبقة من الماء في الوقت المناسب، ليتحول عند انخفاض درجة الحرارة الى جليد للتزلج. كذلك يستخدم الهولنديون عادة، مئات الأنهار والقنوات المائية التي تحيط بالبيوت وتتخلل المدن والقرى كأماكن مثالية ومدهشة للتزلج حين تتحول بفعل البرد الى جليد، لكن الأمر لا يتم بهذه العفوية في هذه الأماكن المفتوحة والعميقة، لأن ذلك قد يعرض الناس للمخاطر. لذا يشترط أن لا يقل سمك الجليد عن 12 سنتمتراً كي يكون آمناً للتزلج، عندها يتحول كل شيء الى عيد حقيقي وحفل أبيض مثل قلوب الفلاحين الذين رسمهم بيتر برويغل. وعادةُ التزلج هنا تعود الى مئات السنين، حيث نلاحظ ذلك في لوحات الكثير من رسامي هولندا في قرون مضت، فحين ندقق باللوحات جيداً نرى ذات التفاصيل التي تحدث اليوم ولم يتغير فيها سوى نوع ملابس الناس. ولكي تكتمل الصورة، فالأكلات الشتوية تكون حاضرة، مثل شوربة السنيرت والشطائر الساخنة، كذلك المشروبات الدافئة التي يقف في مقدمتها الكاكاو بالحليب. والأجمل في هذا المناخ البارد هي الأكشاك الصغيرة (كوك مع سوبي) وهذه التسمية تعود الى القرن السابع عشر وتعني الكعك والشراب، وتنتشر هذه الأكشاك بمحاذاة أماكن التزلج مع بعض الكراسي ومصاطب الجلوس، ويباع فيها شراب الحليب الساخن المخلوط بالشكولاتا، والأمر لا يخلو بالتأكيد من (غلو واين) وهو نبيذ أحمر يُسَخَّن ليُشرَبْ أيام البرد.
وبعد أن يذهب الثلج بعيداً، ويكون الجو ماطراً مثلاً، فالمظلات في اليد والقبعات على الرؤرس والأحذية المخصصة لذلك جاهزة. أما حين يصبح المناخ (برايتنر) أي ضبابياً ( وهذه التسمية يطلقها أهالي أمستردام حول الطقس حين يكون ضبابياً رمادي اللون، وقد اقتبسوا الكلمة من لوحات الرسام الانطباعي الهولندي (برايتنر) الذي رسم مشاهد من امستردام، مليئة بالمناخات الباردة الرمادية) عندها يرتدون معاطفهم ويبحثون عن مقـهى قريب لاحتساء القهوة، أو لشرب بعض كؤوس من شراب الجنيفر الذي يعتبر الشراب الوطني الهولندي، يجلسون عادة كمجموعة، يرفعون كؤوسهم ويتأملون الضباب الذي يلف المدينة ويحولها الى لوحة تعود لانطباعية الشمال.