حيدر المحسن
أهدى الروائي الفرنسي بلزاك مسودته الملأى بالحذف والتصويب إلى النحّات "دافيد دانجيه" وكتب إليه: "ليس النحت مقصوراً على النحّات". الشطب والحذف والتصويب هي أعمال وقائيّة لا بدّ منها من أجل التخلّص من الكلمات والسياقات الضارة. "عليك أن تسوط الجملة لتنقاد إليك" يقول محمود عبد الوهاب: المقلّم الرهيب للنصّ، وكأنه يستعير في عمله دقّة ومثابرة العاصفة. في أعلى صفحة من أوراقه التي جُمعت بعد وفاته نقرأ وصيّة تركها للكتّاب، واستعارها من الشعر الصيني:
زِنْ كل كلمةٍ وفق ميزان واستخدم خيطاً حاسباً حين تقصّ وتقطع
عاصر عبد الوهاب خمسة أجيال أدبية ولم ينشر سوى مجموعة قصصية واحدة، هي رائحة الشتاء، ولم يكن يفكر بأن ما يقوم به يمثل نوعاً من التحدّي للآخرين من الكتّاب، بل هو إضافة إلى من تعلّم على أيديهم صنعة الأدب. كانت القصة تستغرق لديه شهوراً وشهوراً كي يستقرّ على كل تركيبة، وكل دلالة، ويوائم كل حرف في مفرداتها، وإيحاءاتها، ومجازها، وتنغيمها الصوتي، وغير ذلك. كلّ جملة في القصة لها ملمس لفظي في الورقة، ويجب أن يتمرد سياقها على الجمل الكسولة والمتثائبة والمألوفة.
في إحدى سفراته إلى الخارج تعرّف على فتاة بولندية ذات عينين كرستاليتين علّمته أن ينظر إلى الأشياء بعينيها، وصار كأنما يكتب القصة بهما، يختار النصّ الذي يمتلئ بمحمولات كثيرة، وفيه حساسية عالية في الشكل والرؤية. الحكمة التي خرج بها من علاقته بالفتاة هي أن الحياة إقامة (أي فيزا) على هذه الأرض، علينا أن ننظر إليها ونحن واقفون على تلة الشعر.
يشبّه ناطق خلوصي قصص محمود عبد الوهاب باللقطات الفيلمية، يستعير القاصّ فيها عين الكاميرا السينمائية عند الكتابة، ويقول محمد خضير عنه إنه لم يتورط في الاقتراب والامتزاج بحياة شخصياته، وكلتا القراءتين، في رأيي، لم تتمثّلا تماماً "مكر الفنّ" الذي راهن عليه الكاتب، ويقينه بأن سلّم القيم الفنية متغير على الدوام، فما يكون اليوم في الصدارة من عناصر فنية في القصة ربما يأخذ موقعاً في المؤخرة في حقبة تالية. سوّد عبد الوهاب مئات الصفحات، على حدّ تعبيره، وارتحل عبر رؤى سردية عديدة، قبل أن يعثر على القصة التي تمثل "الجزء الأصعب من وعيه بالحياة".
منطلقاً من مبدأ أن أسوأ القصص هي التي "تُروى" وكأنها "حكاية جدّة"، كتب عبد الوهاب القصة المرئية لا المقروءة، التي يتحوّل بواسطتها الواقع اليومي إلى بناء أسطوري بعد تجريده من واقعيته، وأدى به هذا الكشف إلى خلق عالم جديد أطلق عليه اسم الواقع النصّي، وهو كون يجمع بين الواقع والخيال، ويمنح متلقّيه تعدداً في القراءة، وكثافة في المداليل، ويقيم، مثلما يحدث في الشعر، بينه وبين الواقع علاقات جديدة، ورؤى ثرّة ومغايرة.
القراءة الأولى لقصصه تظهرها شبيهة باللقطات الفيلمية: رجل وامرأة يدخلان المطعم، يجلسان، ولا شيء غير ذلك، انتهت اللقطة، وانتهت معها القصة، بينما الحقيقة خلاف ذلك. يتحوّل المشهد في القصة بقوة الصدق الفني إلى حياة كاملة للشخوص، نتتبع حياتها كيف كانت، وكيف ستكون، ونتعرف بواسطة مكر الفنّ على الحدث الذي كان، وعلى الواقعة التي ستقع، بالإضافة إلى تساؤلات الوجود عما هو محلي وعالمي وكوني.
في قصة "طيور بنغالية" نتعرّف على عاشقين يجلسان عند شاطئ مهجور، وهنالك رؤوس نخيل قريبة محترقة. الفتاة مشغولة بكتابها. "يبدو هذا المكان موحشاً. أترغبين في الانتقال إلى مكان آخر". يسألها الشابّ، لكن الشاطئ لا نهائيّ. ما العمل؟ يؤملّ الشابّ حبيبته بأنه سوف يعمل بحّاراً. هنا ينتهي الواقع الحياتي، ويبدأ الواقع النصّي. يخبرها أنه سوف يجعلها أميرة:
"سترتدين ثياباً من حرير كشميري مطرزة بطيور بنغالية وعندما أومئ إلى ثيابك ستغادر الطيور قماشة ثوبك وتحطّ على ركبتي وستحدثني عن جسدك الناعم مثل الهواء".
تنتهي القصة عندما يعود العاشقان إلى واقعهما الحياتي, وتعود الوحشة في المكان. يحسب بعضهم هذا خيالاً محضاً. الواقع النصيّ هو ملاذ كائن يؤسسه التجريب في الفن، شريطة أن لا يكون التجريب إدهاشاً تزويقياً، بل استجابة لضرورة بنائية، وهو يصدر عن منظور الى العالم، وينطق برؤية إليه. إنه التزام الفنان بأن يقدّم منجزاً "يبقى دائماً كما لو كان هو المنجز الكلي في حوار الحياة".