ستار كاووش
اتَّصَلَ بي فاوتر دي فريس، مدير تحرير مجلة أتيليه الهولندية التي أكتب فيها، وأخبرني بأن العدد القادم للمجلة سيكون عنوانه (ربيع جديد) وكانت مناسبة جيدة أن أضع كلمة (الإلهام) عنواناً لعمودي الأخير في المجلة،
والذي تحدثتُ فيه عن تأثير ربيع هولندا على لوحاتي وما يعكسه على الألوان والتقنيات التي أغطي بها قماشات الرسم. لا أريد أن أترجم هنا ماكتبته للمجلة، بل سأتحدث عن التحول الذي يطرأ على المزاج العام لحياتي، والتغيرات التي تحدث بفعل هذه الفتاة الجميلة التي اسمها الربيع، هذه الصَبيَّة التي تتمايل بعطرها ثلاثة أشهر كاملة وتمرر عصاها السحرية فوق الحقول والبيوت والمزارع لتحيلها الى درجات لا متناهية من اللون الأخضر. نعم، لا يمكنني أن أشبه ربيع هولندا سوى بفتاة جميلة، هذا الفصل الذي يأتي، فيخطف الأبصار ويعيد للروح هدوءها الذي تحتاجه ويُرجِع للجسد انطلاقته التي كبحها فصل الشتاء البارد.
العين تنظر هنا وهناك والجمال يحيط بكل المشاهد المتاحة. وكرسام فأن أول ما يهمني من فصل الربيع هو ازدياد ساعات النهار، والتي تُزيد بدورها من ساعات الرسم، ذلك لأني أرسم عادة على الضوء الطبيعي الذي ينبعث من النافذة الزجاجية لسقف المرسم. ثم تأتي بعد ذلك أفكار وتقنيات ومعالجات الرسم، فمثلما تتبرعم النباتات والزهور، وتنبثق سيقان العشب الصغيرة، وتتمدّد أوراق الشجيرات، كذلك تتبرعم أفكار الرسم وتدخل حيز التنفيذ بشكل مختلف. كل شيء يبدأ بالأنسجام من خلال إيقاع المناخ الطري الدافيء الذي تتناغم فيه التفاصيل مع بعضها، لِتُكَّوِن في النهاية مقطوعة موسيقية أسمها الطبيعة، حيث تمد النبتات الصغيرة رؤوسها في مساحات المزارع الواسعة، تحرسها الشجيرات الظليلة التي تغفوا بمحاذاتها بودٍ وتناغم.
لا يمكنكم أن تتخيلوا كيف تتأهب كل الأشياء في مزارع هولندا للتمايل والرقص خلال هذا الفصل، فحين تنفضُ أوراق الأشجار حافاتها من قطرات الندى في الصباح الباكر، ويمد صاحب المزرعة يده لفتح الباب الخشبي الكبير لحضيرة الأبقار، تستعد هذه الأخيرة عند سماعها صرير البوابات الخشبية، فتبدأ بتهيئة أنفسها وهي تتمطى، في حين تنعكس أشعة الشمس الناعمة على حافات أكوام العلف المرصوصة بعناية، وكأنها قد خرجت تواً من إحدى لوحات انطباعية الشمال. وخلال لحظات تمد الأبقار رؤوسها أولاً لتتحسس الفضاء الأخضر، قبل أن تربت أشعة الشمس على هاماتها بلطف، فتخرج دفعة واحدة نحو الحقل المفتوح، وتبدأ بالتقافز ثم تقوم بالرقص، نعم أؤكد لكم ياسادة أن أبقار هولندا ترقص بسعادة قلَّ مثيلها، وهذا المشهد يتكرر كل يوم، حيث تقدم الأبقار السعيدة وصلتها الراقصة وهي تدنو من عشب الحقل بفرح، والفلاح يقف بجانب سياج المزرعة ينظر إليها بإرتياح وسعادة وكأنه يريد أن يشاركها الرقص والقفزات البريئة، وهذا الأمر الساحر لا يدعه الأهالي يمر هكذا عفو الخاطر، بل يتجمعون في الغالب وقت فتح بوابات المزارع ليمتعوا أبصارهم بأبقار بلدهم الراقصة التي لا تلوي على شيء مادامت الشمس مشرقة والمزارع مفتوحة والعشب يملأ المكان. وهذه السعادة تنعكس كثيراً على إنتاج الحليب ونوعيته، فالفلاحون في هولندا يطلقون في بداية الربيع تسمية (الحليب الأخضر) على الحليب الذي تنتجه الأبقار في هذا الوقت من السنة، وهي تسمية شعرية حقاً، تشير الى العشب الذي يكون طرياً ويانعاً في بداية انبثاقه، هو أفضل غذاء للأبقار في هذه الفترة.
إنْ كانت الأبقار تفرح هكذا بقدوم الربيع، فكيف يكون حال البشر؟ وتلك حكاية أخرى، بل حكايات لا تنتهي. لكني سأكتفي هنا بالإشارة الى أشهر ما يقوم به الهولنديون في هذا الفصل الجميل، وفي مقدمة ذلك، ركوبهم الدراجات الهوائية والمضي بها في طول البلاد وعرضها، وبعضهم يقطع مئات الكيلومترات بمتعة متناهية، ينصب خيمته هنا أو هناك عند الحاجة، ليمضي بعدها حسب خارطة الطريق التي يحملها. كذلك يشتهر هذا الفصل بالورد الذي يبسط ألوانه على مساحة البلاد كلها دون استثناء. ولا يفوِّت الهولنديون متعة الذهاب الى شاطئ بحر الشمال في هذا الفصل، حيث تشاهد آلاف الناس وهم يفترشون الرمال بمتعة قلَّ مثيلها. ويختار الكثيرون الاسترخاء في مقاهي الرصيف المفتوحة، يجددون الطلبات التي لا تنتهي إلا وقت إغلاق المقهى. والحدث الأجمل الذي ينتظره الهولنديون في الربيع، هو مناسبة عيد ميلاد الملك الذي يصادف ٢٧ نيسان، وهو إضافة الى كونه عطلة رسمية، فهو يوم احتفالي يفترش فيه الناس الشوارع ويتشاركون بالأكل والشرب، حيث يخرج غالبية الناس أشياءهم الفائضة عن الحاجة ويعرضونها على أرصفة البلد كلها، لبيعها بثمن بسيط جداً كي يستفيد منها الآخرون، وبثمن المبيعات يديمون احتفالهم على الأرصفة، حيث ترتفع الكؤوس وتتداخل روائح الطعام من كل صوب وجانب.