حيدر المحسن
سيرة ذاتية
قد يحصل أحياناً أن لا تكون القصة نسخة من الحياة، وإنما يكون العكس هو الصحيح. قرأت «زهرة الأنبياء» للكاتبة سالمة صالح في طبعة دار المدى (1994)، وفي أخرى حديثة أصدرتها منشورات الجمل، وفي المرتين عددتها سيرة للكاتبة وليس مجموعة قصصية مثلما هو مثبّت على الغلاف.
الفصول الثلاثة والثلاثون ليست قصصاً، إنما خرز زيّنتها الكاتبة بألوان العيش في الطفولة في مدينتها الموصل؛ زهرة الأنبياء، والكتاب ليس في مجمله صورا من الحنين المربكة، بل هو خلق غرضه التعويض عن الطفولة المفقودة، والساكنة في قلب الكاتبة، تقدّمها لنا هنا بصورة أكثر جمالاً وتناغماً من الواقع، وأكثر قدرة على التحقٌّق.
ألواح المرمر
لا توجد أية صعوبة في تذكر الماضي، فالذكريات تقدّم نفسها مباشرة، كذلك الأشياء والحاجات المنزلية، رغم أنها أصبحت خارج الاستعمال منذ وقت بعيد، تعانقها الكاتبة الآن روحياً، يومياً، أما رسوم الأشخاص فتبدو باهتة وكأنها شاخت مع أصحابها. يرد ذكر الأم والأب والأخت لكنهم يعودون إلى الحياة بلا ملامح، الوجوه التي عاشت في الماضي تفقد شكلها لأن الماضي بلا شكل، تبقى منه الحكايات لا غير: “كنا نجلس قرب أمي هادئات ونصغي إلى القصص نفسها يوماً بعد يوم فلا نشعر بالملل”. في الكتاب صورة تفصيلية للبيت الكبير الذي بناه الأجداد، والذي أخذ يتهدم بصورة مستمرّة وتتحول غرفه الواسعة والعالية إلى حجارة تتكوم وتكتسب دلالة خاصة، ألواح المرمر ذات العروق الخضر تنتظم فوق بعضها تاركة شقوقا وثغرات تبتلع بمرور الأيام أشياء ثمينة وكنوزاً “لا يحصل عليها المرء إلا مرة واحدة في حياته”. وها هي الأحجار تؤثّث عزلة الكاتبة وتصبح حاضرا يلازمها أينما ذهبت: “كانت جدران وغرف تنهار بين يوم وآخر، نسمع دويا فنصيخ السمع برهة لنتبين مصدره، ثم نستأنف حياتنا”. وهي في بلاد المهجر، المنفى، تصغي الكاتبة إلى ارتطام الحجارة حتى في نومها. قوة هذا المشهد تتعاظم بمرور السنين في خاطر الكاتبة حتى غدت رمزاً يَقوَى ويطغى بصوته على كلّ ما حوله من صور الماضي. عاشت المؤلفة في المدينة القديمة والجديدة، وكانت هذه تُبنى من الحجارة نفسها التي تفتّتت من بيتهم، ومن ناسها الأوّلين: “شارع عريض شُقّ حديثا. إلى يساره شريط من الأرض قلبت ترابه الجرّارات. أنظر إلى الأرض في توجّس مستعدّة للمفاجأة التي قد تداهمني في أية لحظة. هذا عظم يظهر فوق التراب الهشّ الرطب. ربما كان بقية من هيكل إنسان”. يؤدّي الزّقاق الذي يقع عنده البيت إلى تقاطع طرق تقوم في ثلاث من زواياه ثلاث كنائس ومقبرة وروضة أطفال، الماضي يعيش مع الحاضر ويتعانقان بقوة، ماضي المدينة والدنيا.
أسود وأبيض
«كان لأمي الكثير لتفعله من أجل أطفالها السبعة، وكان عملها لا ينتهي إلا بحلول الظلام”، من البديهي إذن أن تكون الأم حاضرة في أكثر صفحات الكتاب، بينما تذكر المؤلفة أباها ثلاث مرات؛ الأولى وهو يقصّ للأبناء الحكايات، الثانية: “فروة أبي نتدثر بها، نختبئ تحتها أو...”، الثالثة حين تطلب منه أن يشتري لها شيئاٌ من النمنم: “كنت قد رغبت في شيء من هذه الخرزات الملوّنة الصغيرة، فحصلت على كمية ما كنت أحلم بها”. من هذه الخرزات استعرتُ عنوان المقال، وأسميتُ به الكتاب.
تذهب البنت مع أمها إلى حمّام النساء، وتشاهدان في الباب رجلاً مصبوغاً بالسّواد، مثل عفريت خارج من حكايات ألف ليلة وليلة. إنه الوقّاد، يشعل النّار لتسخين خزّان الماء. تدخلان، وتفرش الأم بساطاً خشناً على الدكة، تمدّ فوقه فراشاً آخر ناصع البياض موشّى بحرير أكثر بياضا، يفوح منه عبق الصابون. ثمة فوط من خصل الحرير، ومناديل للرأس بيض يوشّي أطرافها النمنم. سمعت البنت غناء أعطاه جوّ الحمّام سحراً غريبا. تسأل أمها، وتعرف أنهم جاؤوا بعروس قرويّة. تبحث عنها بين النساء، تقول الكاتبة إن العروس»لا يمكن التعرّف عليها في عريها»، وأوحت لي هذه العبارة أن أكتب عند هامش الصفحة: النساء في عريهنّ عرائسُ جميعاً!