علاء المفرجي
شكل العلاقة بين بغداد والسينما ، بالطريقة التي أعشق فيها السينما كخيار مهني.. والطريقة التي أُقدس بها بغداد أنا ابن كرخها .. فعمدت أن أطرق أكثر من شكل لهذه العلاقة، أشكال أرى إنها تشير الى المكان والفن.. بغداد والسينما.. هي ليست على أية حال أشكال أخترعها، بل هي أشكال أقترحها.. عسى أن تفلح بتجسير هذه العلاقة.. وعذراً إن لمستم أنني في هذا العمود اُفرط في إبراز ذاتي في موضوع ربما يبدو عاماً.
تختزن ذاكرة البغداديين للسينما (أفلاماً، وعروضاً وقاعات) تقاليد وطقوساً، لا اُغالي إنْ قلت إنها لا يمكن أن تكون إلا في بغداد..
وهنا أسقط تجربتي الذاتية مع السينما في صورتها وتاريخها في المدينة على الأقل في العقود الأربعة الماضية.
والخطوة الأولى تبدأ في نهاية الستينيات، صبي يحث الخطى بصحبة أخيه الأكبر الى سينما قدري في منطقة الكرخ وهي الصالة التي انشأها قدري الارضروملي الرجل الكرخي البغدادي الثري والتي حملت اسمه قبل أن تتحول بداية السبعينيات الى سينما بغداد.. وهي القاعة التي تعرض أفلاماً سبعة تعرضها صالات شارع الرشيد والباب الشرقي خاصة أفلام الويسترن.. وهو ما كان حصة هذا الصبي الكرخي فيها وهو يشاهد أحد هذه الأفلام ( القطار الأخير) الذي جمع أثنين من أبرز نجوم السينما يوم ذاك (كيرك دوغلاس، و انتوني كوين)، لتبدأ رحلة استكشاف لما تخفيه القاعات المظلمة أو قاعات الأحلام كما يسميها رولان بارت..
وقاعات العرض في بغداد لا تعتمد على عددها أو توزعها في أماكن هي على الأغلب في قلب المدينة.. بل في تخصصها في أنواع الأفلام التي تعرض بما يشبه اتفاقاً غير معلن بين أصحاب هذه الدور.. فسينما غرناطة كانت قد تخصصت في عروض الأفلام الأجنبية ذات المستوى الفكري والفني الراقي.. وربما هي من احتكرت أفلام النجم الفرنسي ألن ديلون.. ومازلت أتذكر مشاهدة أهم فيلمين له بصحبة عبقري الاداء الفرنسي جان كابان (رجلان في مأزق) و(الأرملة) مع سيمون سينوريه إحدى عبقريات السينما الفرنسية.. وبالطبع في غرناطة حاولنا أن نتقصى أسرار اغتيال المعارض المغربي (المهدي بن بركة) في الفيلم الفرنسي (الاغتيال).. وليس بعيداً عنها كانت سينما الخيام التي تخصصت بعرض أفلام (الويسترن)، وأذكر من هذه الأفلام (الجندي الازرق) الذي مازلت أراه الفيلم الافضل في تناول موضوع الحرب الأهلية الاميركية، وأيضاً بشاعة اليانكي...
وتختزن الذاكرة لصالة سميراميس في شارع السعدون أفلاماً اقترنت بنضوج الوعي السياسي بداية السبعينيات مع أفلام مثل (Z) و (ساكو فانزيتي) و (الى البوليسي مع التحيات) وهي أفلام كانت تشحذ الحماسة فينا في الأيام تلك .. وتستقر سميراميس في ذاكرتي كونها آخر قاعة أدخلها لمشاهدة فيلم نهاية الثمانينيات وقبل أن تكتسحنا الفوضى في كل شيء.. وكان فيلم (حنا ك) لكوستا غافراس، الذي ما كان ليسمح بعرضه في ذلك الوقت لولا انتصاره لـ (القضية المركزية!).
ثم نتوقف عند سينما بابل التي تخصصت بمنهاج أسابيعها المختلفة وخاصة (أسبوع الفيلم السوفييتي) الذي كان يتكرر كل عام تقريباً.. ومازلت اتذكر مشاهدتي في هذه الصالة للأنشودة السينمائية المعجزة (مخيم الغجر يصعد الى السماء) بتوقيع أميل لوتيانو.. عن إحدى روائع مكسيم غوركي.
وعلى مقربة منها سينما النصر والأفلام العربية الكبيرة.. وحدثها الأهم صيف عام 1973، عندما جعلتنا وجهاً لوجه مع النجم الذي نحب، كمال الشناوي وهو يفتتح عرض أحد أفلامه في بغداد (زائر الفجر).
* جزء من كتاب (السينما في ذاكرتي)