جوليان باغيني
ترجمة وتقديم لطفية الدليمي
القسم الثاني
جوليان باغيني Julian Baggini ( مولود عام 1968 ) :
فيلسوف وصحافي ومؤلف بريطاني ألّف ماينوف على العشرين كتاباً في الفلسفة موجّهة للقارئ العام ، وهو أحد مؤسسي مجلة الفلاسفة Philosophes’ Magazine ذات الشهرة العالمية . بالاضافة لمؤلفاته ومنشوراته البحثية العديدة في حقل الفلسفة فقد تناول باغيني أيضاً موضوعات متعددة مثل : العلمانية وطبيعة الهوية الوطنية .
أقدّمُ في القسم التالي – وأقسام لاحقة – ترجمة لفصول منتخبة من كتاب باغيني المعنون ( الفلسفة : كلّ مايهمّنا عنها Philosophy : All That Matters ) المنشور عام 2013 .
المترجمة
الحفرُ لمستويات ( فلسفية ) أعمق
مايمكنُنا التوثّق منه هو ماأن طُرِح السؤال الأوّل الذي يبدأ بمفردة " لماذا ؟ " للحصول على جواب مناسب لسؤال فلسفي حتى بات لزاماً علينا الحفر الفلسفي أعمق من أجل بلوغ أسئلة أخرى تكمن تحت السؤال الأول ، وعلى هذا النحو تمضي عملية التفكّر الفلسفي . التفكير مثلاً بشأن " كيف علينا أن نعيش على المستويين الفردي والمجتمعي ؟ " يستدعي بطريقة تلقائية وطبيعية السؤال الآخر " أي نوعٍ من المخلوقات نحن حقاً ؟ " ، وذلك حقل معرفي آخر يدعى أحياناً ( الفلسفة الانثروبولوجية ) . هكذا هو الأمر إذن : التفكّر بسؤال فلسفي محدّد فتح نافذة أمام سؤال آخر : طبيعة الحياة البشرية .
لكن حتى نفهم طبيعة الكائنات البشرية يتوجّبُ علينا أن نفهم طبيعة الكون الذي نعيش فيه ، وهذا الأمر يقودنا إلى الميتافيزيقا ، وكذلك إلى السؤال الخاص حول وجود " شيء ما " يقع على عاتقه مسؤولية هذا الكون ؛ وهو الأمر الذي يقودُ إلى فلسفة الدين . لم يزل بإمكان الأسئلة ( الفلسفية ) أن تمضي لمستويات أعمق : على أي شيء يمكن أن نؤسّس فهمنا للكون ؟ الجواب واضح : على العلم قبل أي شيء وكل شيء ؛ لكن ماهو العلم بالضبط ؟ وكيف يعمل ؟ نحن في حاجة هنا إلى فلسفة العلم لايجاد إجابات مناسبة .
لكن حتى العلم لايتموضعُ في الأساس الأعمق لفهمنا . نحن - ككائنات بشرية - لكي نمارس العلم علينا قبل كل شيء تمثيل العالم على صعيد كل من اللغة والاحساس ، وبطريقة غريبة فإنّ هذا التمثيل يعيدُنا إلى حيث خط الشروع الذي بدأت منه الفلسفة : بدأنا أولاً بتمثيل العالم ، ثم شرعنا في مساءلة العالم الذي مثّلناه بوسائلنا البشرية ، ثم انتهينا أخيراً بمساءلة تمثيلنا للعالم .
تمثّل هذه الرحلة التي وصفتها أعلاه نمو الفلسفة من الولادة حتى البلوغ ، ومن هذا الطور البالغ في الفلسفة تنبثق بعضٌ من أكثر الأسئلة الفلسفية الشاقة والتي تبدو موغلة في التجريد العقلي : ماالمعرفة ؟ ماالحقيقة ؟ هل بمستطاعنا أن نحوز أياً منهما ( المعرفة والحقيقة ) ؟ هذه الأسئلة وأمثالها تقودنا إلى مستويات فلسفية أعمق بكثير من ذي قبلُ ، تفكّر على سبيل المثال في السؤال التالي : هل أنّ المعضلات الفلسفية أختُرِعت أم أكتُشِفت؟ ثمة قناعة ناجمة عن احساس شائع يفيدُ بأنّ هذه المعضلات الفلسفية لم تكن لتوجد حتى بدأ البشر في التفكير بشأنها ؛ لكنّ الكيفية التي رويتُ بها حكاية الفلسفة تبدو وكأنها تنبئ بإحساس مغاير للإحساس السابق ، وأنّ المعضلات والموضوعات الفلسفية كانت دائماً موجودة ( حتى لو لم يتفكر البشر بشأنها ، المترجمة)، وأنّ كلّ مااحتاجته هذه المعضلات والموضوعات هو أن يعثر البشر عليها ويتفكّروا فيها . لذا يبدو من المشروع أن نتساءل : هل أنّ الفلسفة هيكل معرفي بشري أم أنّها تملك وجوداً حقيقياً بذاتها ؟ هذا السؤال يُرينا بوضوح الحاجة المميزة للفلسفة لأنّ تتأمّل دوماً في طبيعتها الذاتية، وأن تضيف مستوى بعد آخر من مستويات التأمّل والتفكير الفلسفيين . إذا ماكانت الفلسفة بلغت طور البلوغ عندما ساءلت تمثيلنا للعالم فربما تكون بلغت تمام نضجها عندما صارت قادرة على مساءلة معضلاتها الخاصة ووضعها موضع التفكر والامتحان .
هذا التطوّر في المساءلة الفلسفية - ابتداءً من " لماذا ؟ " الأولى وحتى الاسئلة الأكثر تعقيداً التي تطرحها النظرية التجريدية للمعرفة - ليس مفترضاً فيه أن يكون تقريراً تأريخياً حول ماحدث للتفكّر الفلسفي البشري حقاً بقدر مايُراد له أن يكون أطروحة فكرية تقترحُ جواباً مناسباً حول ماالذي يجعل الكائنات البشرية مختلفة حقاً ( عن الانواع البيولوجية الاخرى وفيما بينها أيضاً ، المترجمة ) ، وكيف تترابط اسئلة الفلسفة مع بعضها ، ولكون هذه الاطروحة على هذه الشاكلة فهي توضّحُ ( جزئياً في أقلّ تقدير ) السبب الكامن وراء اختلاف وجهات نظر البشر حول الأسئلة الفلسفية الاكثر جوهرية ، وهو سؤال ( كيف ينبغي أن نعيش ؟ ) الذي قد يُسألُ بطريقة أو بأخرى ؛ لكنه ( غالباً وليس دوماً ) السؤال الذي يقدّمُ الدافع الاساسي لطرح كلّ الاسئلة الفلسفية الاخرى . يحصل في أحيان ليست بالقليلة أنّ الاسئلة الفلسفية الاكثر أساسية من سواها هي تلك التي تبقى من غير جواب مناسب لها حتى النهاية لأنّ مثل هذه الأسئلة الأساسية تتطلب العثور على إجابات لأسئلة عديدة سواها ، ومن ثم تجميع قطع الاحجية معاً لمعاونتنا آخر الأمر في معرفة ماهو الغرض من الحياة .
سأسعى في هذه الإطروحة إلى تناول الأسئلة الفلسفية بترتيب زمني معكوس : بدلاً من البدء بمساءلة الموضوعات الواقعية المحدّدة نحو الأسئلة الاكثر تجريدية فإننا سنبدأ بمساءلة الموضوعات التي تبدو تجريدية ، ومن ثم سنبيّنُ كيف أنّ الإجابات المتحصلة عن هذه الاسئلة ستساهمُ في مساعدتنا على مساءلة الموضوعات الوجودية الأكثر أهمية من سواها . إنّه لأمرٌ طبيعي للغاية أننا ماأن نشرع في التفكّر في الأسئلة التجريدية فإنّ مثل هذه الأسئلة يمكن أن تقودنا في دروب خاصة بها ، وأنّ كثرة من البشر تتعامل مع هذه الأسئلة لالشيء سوى دافع الفضول البشري الذي يجد في مثل هذه الأسئلة نمطاً من الأحجيات المعقدة التي يتوجّبُ حلّها . ليس ثمة من خطأ في مثل هذه المقاربة البشرية للأسئلة الفلسفية التجريدية ( الأكثر أساسية من غيرها ) ؛ فالفلاسفة في نهاية الأمر ليسوا ماكثين دوماً تحت طائلة التفكير بالجانب العملي للموضوعات التي يبحثونها ، وهم في هذا لايختلفون كثيراً عن الرياضياتيين أو العلماء ؛ لكني مع هذا لا أرمي إلى تكريس القناعة بأنّ مثل هذه الأسئلة الفلسفية هي موضعُ ولعٍ بشري من أجل الولع فحسب لأنّ عيش حياة متفكّر فيها ومُمْتحَنة أمرٌ يتطلّبُ في أقل تقدير شيئاً من الانشغال بالاسئلة الخاصة بِـ ( مايمكن أن نعرفه ) و ( كيف يمكن أن نعرف مايمكننا معرفته ) .
في البحث عن الحقيقة
هل يفيد العلاج بالأبر الصينية ؟ وإذا كان الامر كذلك فلأيّ حد يفيد هذا العلاج ، ولأيّ الحالات يوصى به ؟ هل بمقدور كوكبنا الارضي أن يديم حياة سكّانه الحاليين أم أننا تجاوزنا عتبة قدرة الارض على إعالة هذا القدر من البشر ؟ ماالمدرسة الأفضل لولدي ؟ هل يتوجّبُ عليّ خسارة بعض الوزن ؟ هل تصرّف لي هارفي أوزوالد ( قاتل الرئيس الاميركي كينيدي ، المترجمة ) لوحده حقاً ؟
ابتداءً من الامور الدنيوية وانتهاءً بتلك الميتافيزيقية فإنّ الوضع البشري تمثل في إبداء الدهشة والتفكّر بشأن ماهو صحيح ، وماالذي نستطيع معرفته . نحن في معظم أطوار حياتنا نتفكّرُ هل أنّ أشياء محدّدة هي حقيقية أم زائفة ، معلومةٌ لنا أم غير معلومة ، من غير الذهاب خطوة أبعد وسؤال أنفسنا ماالذي يعنيه كلّ من " الحقيقة " و " المعرفة " حقاً . نحنُ في معظم الاغراض العملية لسنا في حاجة إلى هذا التفكّر بشأن الحقيقة والمعرفة : لو قلتُ أنني أعرف بأي وقت تغادر الحافلة ، أو أنني أعرف أنّ إحدى الشخصيات المهمة ذات المكانة قد ماتت للتو فلستَ في حاجة لأن تكون قد درست الفلسفة لكي تفهم بالضبط ماعنيته بكلامي . بقدر مايختص الامر بك فإنّ سؤالك ( لكن ماذا تعني بكلمة " أعلم "؟ ) سيبدو سؤالاً أخرقَ وغير مناسب ومن الصعب تقديم إجابة وافية له .
لماذا إذن بعد كل هذا قد نظنُّ أنّ هذا السؤال ينطوي على قدر مناسب من المشروعية بحيث يستوجب عبء محاولة تقديم جواب وافٍ له ؟ إنّ هذه الفعالية بذاتها ( أي طرح سؤال ، والتفكّر الحثيث فيه ، ثم محاولة تقديم جواب له ، المترجمة ) هي موضع تساؤل فلسفي : نحنُ – على كل حال – نحاول تقديم تعريف وافٍ ومقبول للفلسفة ( رغم المشقة التي تكتنف هذا المسعى في بلوغ تعريف يرضى عنه الجميع ويحوز مقبوليتهم ) ؛ لكن من المؤكّد أن يكون الأمر صحيحاً إذا ماقلنا أننا نمارسُ الفلسفة كلّما تأمّلنا بطريقة معقلنة في طبيعة ، أو غرض ، أو معنى ، أو تسويغ ، أو قيمة أية خصيصة عامة لهذا العالم ( الذي نعيش فيه ) بدلاً من الاقتصار على مجرد شيء محدّد فيه ، لذا ، على سبيل المثال ، نحن لن نمارس الفلسفة لو سألنا " لماذا بنى أحدهم معبداً في ذلك المكان ؟ " أو تساءلنا ماالذي عناه هاملت عندما قال " أعرفُ الصقر من منشار يدوي " ؛ لكننا سنكون ممارسين للفلسفة عندما نتفحّصُ بطريقة عقلانية الغرض الكامن وراء العبادة الدينية ، أو معنى اللغة الاستعارية ، أو طبيعة سلامة العقل ( في مقابل الجنون ) . نستطيع أن نستخدم – بالتأكيد – مثل هذه التأمّلات الفلسفية في إلقاء ضوء المعرفة وفحص حالات محدّدة ، تماماً مثلما يمكن أن يساعدنا التأمّل الاخلاقياتي في الارتقاء بالفكر الفلسفي عبر تفحّص معضلة أخلاقية محدّدة ؛ لكننا لن نتخذ مقاربة فلسفية نحو معضلة أخلاقية إذا ماقصرنا جهودنا على حالة محدّدة معروضة لنا .
مايعنيه هذا الامر ، في الواقع العملي ، هو أنّ الفلسفة مسعى لايمكن تجاوزه والإعراضُ عنه . أنت لاتستطيع حنى طرح الفلسفة جانباً من غير ممارستك بعض الفلسفة أولاً لأنك وأنت تطرح الفلسفة جانباً لابدّ أن تكون قد فكّرت بقدر ما في طبيعتها وقيمتها وغرضها ، وهذا التفكّر يعني أنك مارستَ فعلاً فلسفياً ؛ لذا يمكن المجادلة بأنّ العبارة التي تفيدُ بأنّ (الفلسفة عديمة الفائدة) هي ليست سوى عبارة متناقضة ذاتياً لأنها تمثّلُ موقفاً فلسفياً هو ذاته في حاجة إلى تسويغ فلسفي .
يتبع القسم الثالث