TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: الوفرةُ التي انقلبت عبئاً

قناديل: الوفرةُ التي انقلبت عبئاً

نشر في: 20 مارس, 2021: 09:37 م

 لطفية الدليمي

لاأحسبُ أنّ (بورخيس) جانب الصواب عندما تخيّل الجنّة مكتبة كبيرة ؛ فللكتب سحرُها وغوايتها بل وحتى رائحتها المميزة عندما كانت الكتب مصنّعاتٍ ورقية لها لون وملمس وعبير .

بقي سحرُ الكتاب في المملكة الألكترونية التي نعيشها ؛ لكنّ شكل وعنفوان هذا السحر وطبيعته تغيّر في جوهره بسبب الوفرة . الوفرة بَرَكةٌ بالتأكيد ؛ لكنّ بركة وفرة الكتب صارت أقرب لعبء ينوء به عاشق الكتب وبخاصة ذلك الذي كان يهفو قلبه لكتابٍ داعب أحلامه في عصر ماقبل الشبكة الألكترونية وموقع الأمازون وكبريات دور النشر العالمية جامعية كانت أم سوى ذلك .

ليست بعيدةً تلك الأوقات قبل عقودٍ عدّة عندما كنّا نقاتلُ - حقاً كنّا نقاتلُ ! - للحصول على كتابٍ ورقي جديد يعزز معرفتنا وكنوز مكتباتنا . كنّا نبذلُ الكثير من الوقت والمال عن طيب خاطر لنحصل على كتاب وبخاصة إذا ماكان عنوانه يفتح لنا منافذ المعرفة الرفيعة التي لانرتوي من منابعها ، وليست قليلةً تلك الكتبُ التي سعينا للحصول على نسخة منها عبر مكاتبة بعض الأصدقاء، وكم كنّا في تلك السنوات نسرع كل بضعة أيام لتفقّدِ صناديقنا البريدية بلهفة متوقّعين العثور على كتاب سمعنا به وأحببناه .

تغيّرت هذه الحال اليوم بفعل الثورة الرقمية وصارت طيوفاً قابعة في ذاكرة الأمس ، وليس هذا غريباً فكلّ ثورة تقنية تأتي بطائفة مستجدّة من الخبرات فيما تجعلُ بعض الخبرات السابقة خارج نطاق التداول البشري . إذا أردتَ اليوم قراءة كتابٍ ما في أيّ حقل معرفي فلاتحتاجُ لأكثر من الذهاب إلى موقع أمازون الأكثر شهرة في العالم ، ثمّ تطلبُ عنوان كتابك ، وإذا أتيحت لك خدمة الدفع الالكتروني فسيكون الكتاب في حوزتك بعد ثوانٍ من تسديد قيمته ، وهي قيمة عادية في كلّ الأحوال ولاتثقلُ جيباً أو تخلّ بميزانية شهرية . هذه بعضُ حسنات الثورة التقنية لمن أدمنوا القراءة ؛ لكنّ هذه الحسنة الجميلة لم تأتِ خالية من بعض المنغّصات التي تقترنُ بكلّ الثورات التقنية .

أولاً ، ضاع الترقّبُ - بكلّ مكابداته اللذيذة - وانتظار حدثٍ جميل في حياتنا . صار الكتابُ طوع أيدينا وفي حوزتنا متى ماشئنا ؛ بل وثمة خدمةٌ للطلب المسبق تمكّننا من الحصول على نسخة من كتاب جديد قبل موعد إطلاقه الرسمي في العالم . حالُنا السابق في لهفة انتظار كتاب مشابه للهفتنا في سماع أغنية عبر المذياع ، كانت تلك الأغنية التي نسمعها من غير ميعاد تملأنا ببهجة ماعدنا قادرين على اختبارها اليوم بعد أن صار ( اليوتيوب) مخزناً مجانياً ليس للغناء حسب بل لتاريخ المعرفة والسينما والموسيقى يتيحُ لنا سماعَ ومشاهدة مانحبُّ في الزمان والمكان اللذين نشاء .

ثانياً ، صارت معاينة الإصدارات الجديدة من الكتب - بالنسبة لي ، ولكثيرين أمثالي - عذاباً بمثل ماهي لذّة عظيمة : يذهبُ أحدنا لموقع الأمازون لقراءة ملخّص تعريفي Preview عن كتابٍ ما ومعاينة محتوياته ؛ فإذا به يعلق في سلسلة لانهائية من كتب يرى الموقع أنها تشترك مع الكتاب المطلوب في طبيعة موضوعها ، وقد حصل معي كثيراً أن بدأتُ بعنوانٍ محدّد لكتاب، ثمّ إنتهيتُ بكتبٍ لم يخطر ببالي يوماً أنني سأراجعها ، وتتعاظمُ آثار هذه الظاهرة عندما يكون المرء مهتماً بحقول معرفية عديدة .

غصةٌ كبيرة يختنق بها المرءُ عندما يدرك أنه سيغادرُ هذه الحياة وهو لم يقرأ الكثير من الكتب التي أصبحت مُتاحة له والتي حلم بقراءتها في أزمنة ماضيات .

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. عدي باش

    سيدتي الفاضلة .. أستهواني عنوان مقال سابق (صندقچة ثقافية) رغبت بإتخاذة عنوان لنافذة معرفية

  2. عدي باش

    أطل أسبوعيا على متابعي صفحتي على (الفيس بوك)..أرجو تفضلكم بالموافقة على إستلهامه ، مع فائق الشكر

ملحق منارات

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: صنع في العراق

 علي حسين اخبرنا الشيخ همام حمودي" مشكورا " ان العراقي يعيش حاله من الرفاهيه يلبس أرقى الملابس وعنده نقال ايفون وراتبه جيد جدآ ، فماذا يحتاج بعد كل هذه الرفاهية. وجميل أن تتزامن...
علي حسين

قناطر: في البصرة.. هذا الكعك من ذاك العجين

طالب عبد العزيز كل ما تتعرض له الحياة السياسية من هزات في العراق نتيجة حتمية لعملية خاطئة، لم تبن على وفق برامج وخطط العمل السياسي؛ بمفهومه المتعارف عليه في الدول الديمقراطية، كقواعد وأسس علمية....
طالب عبد العزيز

تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.. من يكون رئيس الوزراء؟

إياد العنبر يخبرنا التراث الفكري الإسلامي بأن التنظير للسلطة السياسية يبدأ بسؤال مَن يحكم؟ وليس كيف يحكم؟ ولعلَّ تفسير ذلك يعود لسؤالٍ مأزومٍ في الفقه السياسي الإسلامي، إذ نجد أن مقالات الإسلاميين تبدأ بمناقشة...
اياد العنبر

هل الكاتب مرآةً كاشفة للحقيقة؟

عبد الكريم البليخ لم يكن الكاتب، في جوهره، مجرد ناسخ أو راوٍ، بل كان شاهداً. الشاهد على لحظةٍ تاريخية، على مأساةٍ إنسانية، على حلمٍ جماعي، وعلى جرحٍ فردي. والكاتب الحقيقي، عبر العصور، هو ذاك...
عبد الكريم البليخ
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram