لطفية الدليمي
التجربة الفكرية Thought Experiment خصيصة مميزة لكلّ عقل خلاق . تضيق بك الأرض وماعليها فتلجأ إلى دواخل عقلك لكي تخلق عالماً موازياً لايراه آخرون ولاوجود له في عقولهم .
الرواية ، على سبيل المثال ، تجربة تخييلية في سياق وقائع ؛ ومن أجل ذلك هي تجربة فكرية لذيذة . المعروف عن آينشتاين ولعُهُ بالتجارب الفكرية ، وليست نظرياته في النسبية العامة والخاصة سوى نتائج مباشرة لتجربتين فكريتين : كيف ستكون قوانين الفيزياء لو ركب الواحد منّا قطاراً تكاد سرعته تبلغ مستويات قريبة من سرعة الضوء ؟ وكيف ستكون تلك القوانين بالنسبة لشخص في مصعد يهبط هبوطاً حراً ؟
واحدةٌ من تلك التجارب الفكرية التي لطالما داعبت خيالي – وأظنّ خيال كثيرين سواي – هي التالية : كيف سيكون شكل العالم لو تحدّث ساكنوه لغة واحدة ( أو موحّدة ) في شتى أصقاعه ؟ اللغة الموحّدة هنا كناية عن محاولات حثيثة بذلها بحّاثة رائدون لتخليق لغة إصطناعية – أي ليست طبيعية – عالمية مثل لغة ( الأسبرانتو ) التي لم يكتب لها النجاح . اللغة منتجٌ طبيعي يتمّ تمريره للوافد الجديد إلى العالم بفعل مشترك من الوراثة والتدريب ؛ لكن هل اللغة شيء يُكتشفُ أم يخترعُ ( حالها في هذا كالرياضيات مثلاً ) ؟ هذا ميدان مباحث كبرى مشتبكة ، وليست ميدان هذه المقالة .
لنفترض ، في تجربة فكرية منعشة للعقل ، أنّ لغة ما جرى تخليقها ورفعها لمرتبة اللغة العالمية الموحّدة ، ولنفترض أيضاً أنّ البلدان تغافلت عن حقيقة أنّ لغاتها واجهات مميزة لكبريائها الوطني وجغرافيتها السياسية الدالة على تأثيرها المتفرّد في العالم ؛ فكيف سيكون حال العالم حينئذ ؟ أظنّ أنّ الكسالى الذين لطالما أعسرتهم اللغة سيتراقصون طرباً بعد أن يطرحوا عنهم عبء التعلّم ومشاقه . دعونا من هؤلاء الكسالى . حتى المجتهدون أنقياء السريرة سيظنّون في اللغة العالمية الموحّدة وسيلة لتعزيز التفاهم العالمي وكبح جموح الصراعات العنفية الناجمة عن سوء فهم الآخر ، وسيقتربُ العالم من صورة يوتوبية تبعث على الأمل والثقة .
هذه محضُ أخدوعة قد نتلهّى بها أحياناً ( ولابأس من بعض التلهّي غير المؤذي أحياناً ! ) . نميلُ – باعتبارنا كائنات بشرية – إلى قانون فيزيائي حاكم يسمّى قانون الفعل الأقلّ The Law of Least Action ، وجوهره أداء الفعل بأقلّ جهد متاح ؛ لكن من جانب آخر يجبُ أن نعرف حقيقة أخرى : الخبرات الحقيقية والمنافع العملية الطيبة التي تقود للتطوّر البشري لاتنقاد لهذا القانون . لن يتطوّر الدماغ البشري والخبرات البشرية في أناسٍ إعتادوا التعامل اليومي السهل وأدواته المتاحة من غير جهد مبذول بطريقة قصدية وهادفة . لايستطيع الواحد منّا تنمية عضلاته وهو مستلقٍ طول اليوم خدِراً متبلّداً في سريره ، وكذا الأمر مع عقولنا . لابدّ من فعاليات قسرية نمارسها تخالفُ الفعاليات التي صرنا نؤديها وكأننا مسرنمون ( سائرون نياماً ) . الفعاليات التلقائية لاتطوّرُ العقل البشري ، وتعلّمُ لغةٍ جديدةٍ واحدةٌ من أعظم الفعاليات التي تطوّرّ عقولنا .
حقيقة أخرى لايجب نسيانها أو التغافل عنها . اللغة هيكل إطاري يشكّل قاعدة لرؤيتنا المميزة للعالم : العربي مثلاً يرى العالم بطريقة تتمايز عن رؤية الانكليزي أو الفرنسي أو الألماني أو الياباني أو الصيني ،،، . اللغة بهذا المفهوم حاملٌ لهذه الرؤية ، وكلّ لغة جديدة نتعلّمها هو إعادة تشكيل رؤيتنا للعالم بسبب إعادة تشكيل أدمغتنا على المستوى البيولوجي الدقيق . هل ثمة من يريدُ خسران هذا التنوّع الخلّاق في رؤية العالم ؟
لتكنْ دعوتنا جميعاً : عساه لن يأتي ذلك اليوم الذي سيتكلّمُ فيه العالم لغة واحدة .