TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: ماذا لو تكلّم العالم لغة واحدة ؟

قناديل: ماذا لو تكلّم العالم لغة واحدة ؟

نشر في: 27 مارس, 2021: 09:55 م

 لطفية الدليمي

التجربة الفكرية Thought Experiment خصيصة مميزة لكلّ عقل خلاق . تضيق بك الأرض وماعليها فتلجأ إلى دواخل عقلك لكي تخلق عالماً موازياً لايراه آخرون ولاوجود له في عقولهم .

الرواية ، على سبيل المثال ، تجربة تخييلية في سياق وقائع ؛ ومن أجل ذلك هي تجربة فكرية لذيذة . المعروف عن آينشتاين ولعُهُ بالتجارب الفكرية ، وليست نظرياته في النسبية العامة والخاصة سوى نتائج مباشرة لتجربتين فكريتين : كيف ستكون قوانين الفيزياء لو ركب الواحد منّا قطاراً تكاد سرعته تبلغ مستويات قريبة من سرعة الضوء ؟ وكيف ستكون تلك القوانين بالنسبة لشخص في مصعد يهبط هبوطاً حراً ؟

واحدةٌ من تلك التجارب الفكرية التي لطالما داعبت خيالي – وأظنّ خيال كثيرين سواي – هي التالية : كيف سيكون شكل العالم لو تحدّث ساكنوه لغة واحدة ( أو موحّدة ) في شتى أصقاعه ؟ اللغة الموحّدة هنا كناية عن محاولات حثيثة بذلها بحّاثة رائدون لتخليق لغة إصطناعية – أي ليست طبيعية – عالمية مثل لغة ( الأسبرانتو ) التي لم يكتب لها النجاح . اللغة منتجٌ طبيعي يتمّ تمريره للوافد الجديد إلى العالم بفعل مشترك من الوراثة والتدريب ؛ لكن هل اللغة شيء يُكتشفُ أم يخترعُ ( حالها في هذا كالرياضيات مثلاً ) ؟ هذا ميدان مباحث كبرى مشتبكة ، وليست ميدان هذه المقالة .

لنفترض ، في تجربة فكرية منعشة للعقل ، أنّ لغة ما جرى تخليقها ورفعها لمرتبة اللغة العالمية الموحّدة ، ولنفترض أيضاً أنّ البلدان تغافلت عن حقيقة أنّ لغاتها واجهات مميزة لكبريائها الوطني وجغرافيتها السياسية الدالة على تأثيرها المتفرّد في العالم ؛ فكيف سيكون حال العالم حينئذ ؟ أظنّ أنّ الكسالى الذين لطالما أعسرتهم اللغة سيتراقصون طرباً بعد أن يطرحوا عنهم عبء التعلّم ومشاقه . دعونا من هؤلاء الكسالى . حتى المجتهدون أنقياء السريرة سيظنّون في اللغة العالمية الموحّدة وسيلة لتعزيز التفاهم العالمي وكبح جموح الصراعات العنفية الناجمة عن سوء فهم الآخر ، وسيقتربُ العالم من صورة يوتوبية تبعث على الأمل والثقة .

هذه محضُ أخدوعة قد نتلهّى بها أحياناً ( ولابأس من بعض التلهّي غير المؤذي أحياناً ! ) . نميلُ – باعتبارنا كائنات بشرية – إلى قانون فيزيائي حاكم يسمّى قانون الفعل الأقلّ The Law of Least Action ، وجوهره أداء الفعل بأقلّ جهد متاح ؛ لكن من جانب آخر يجبُ أن نعرف حقيقة أخرى : الخبرات الحقيقية والمنافع العملية الطيبة التي تقود للتطوّر البشري لاتنقاد لهذا القانون . لن يتطوّر الدماغ البشري والخبرات البشرية في أناسٍ إعتادوا التعامل اليومي السهل وأدواته المتاحة من غير جهد مبذول بطريقة قصدية وهادفة . لايستطيع الواحد منّا تنمية عضلاته وهو مستلقٍ طول اليوم خدِراً متبلّداً في سريره ، وكذا الأمر مع عقولنا . لابدّ من فعاليات قسرية نمارسها تخالفُ الفعاليات التي صرنا نؤديها وكأننا مسرنمون ( سائرون نياماً ) . الفعاليات التلقائية لاتطوّرُ العقل البشري ، وتعلّمُ لغةٍ جديدةٍ واحدةٌ من أعظم الفعاليات التي تطوّرّ عقولنا .

حقيقة أخرى لايجب نسيانها أو التغافل عنها . اللغة هيكل إطاري يشكّل قاعدة لرؤيتنا المميزة للعالم : العربي مثلاً يرى العالم بطريقة تتمايز عن رؤية الانكليزي أو الفرنسي أو الألماني أو الياباني أو الصيني ،،، . اللغة بهذا المفهوم حاملٌ لهذه الرؤية ، وكلّ لغة جديدة نتعلّمها هو إعادة تشكيل رؤيتنا للعالم بسبب إعادة تشكيل أدمغتنا على المستوى البيولوجي الدقيق . هل ثمة من يريدُ خسران هذا التنوّع الخلّاق في رؤية العالم ؟

لتكنْ دعوتنا جميعاً : عساه لن يأتي ذلك اليوم الذي سيتكلّمُ فيه العالم لغة واحدة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: صنع في العراق

 علي حسين اخبرنا الشيخ همام حمودي" مشكورا " ان العراقي يعيش حاله من الرفاهيه يلبس أرقى الملابس وعنده نقال ايفون وراتبه جيد جدآ ، فماذا يحتاج بعد كل هذه الرفاهية. وجميل أن تتزامن...
علي حسين

قناطر: في البصرة.. هذا الكعك من ذاك العجين

طالب عبد العزيز كل ما تتعرض له الحياة السياسية من هزات في العراق نتيجة حتمية لعملية خاطئة، لم تبن على وفق برامج وخطط العمل السياسي؛ بمفهومه المتعارف عليه في الدول الديمقراطية، كقواعد وأسس علمية....
طالب عبد العزيز

تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.. من يكون رئيس الوزراء؟

إياد العنبر يخبرنا التراث الفكري الإسلامي بأن التنظير للسلطة السياسية يبدأ بسؤال مَن يحكم؟ وليس كيف يحكم؟ ولعلَّ تفسير ذلك يعود لسؤالٍ مأزومٍ في الفقه السياسي الإسلامي، إذ نجد أن مقالات الإسلاميين تبدأ بمناقشة...
اياد العنبر

هل الكاتب مرآةً كاشفة للحقيقة؟

عبد الكريم البليخ لم يكن الكاتب، في جوهره، مجرد ناسخ أو راوٍ، بل كان شاهداً. الشاهد على لحظةٍ تاريخية، على مأساةٍ إنسانية، على حلمٍ جماعي، وعلى جرحٍ فردي. والكاتب الحقيقي، عبر العصور، هو ذاك...
عبد الكريم البليخ
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram