ستار كاووش
الساعة قاربت السادسة مساءً، لذا توقفتُ كالعادة عن الرسم، وبدأت أُلملم الأدوات وأنظف الفرش وأهيء المكان ليوم غد. أمسكتُ بعض علب الألوان، وقبل أن أعيدها الى الرف القريب، سمعتُ طرقاً خفيفاً على باب المرسم الخشبي،
فتحت الباب وإذا بي أرَ لوكاس يقف عند الباب بلحيته الرمادية وشعره الأشعث الذي تجمعت عليه بعض قطرات المطر، وقد إلتمعت إحدى عينيه بعد أن انعكست عليها إضاءة المرسم، بينما توارت عينه الأخرى في الجهة المظلمة للشارع. (أهلاً لوك) هكذا رحبت به، فدخل المرسم قائلاً بصوت منخفض كأنه يخفي سراً (يوجد في شاحنتي أربعين ديكاً)، وقبل أن أفهم قصده، أكملَ حديثه (لقد جلبتها معي في الشاحنة من فرنسا، وقد فكرت أن أمر عليك، فربما لديك رغبة في شرائها أو معرفة شخصاً يحب الديوك). ديوك؟ فرنسا؟ أشتريها؟وهنا التبس عليَّ الأمر أكثر! فبادرته بقولي ضاحكاً وأنا أشير الى اللوحات (وهل أنا فلاح أو صاحب مزرعة دواجن لأقوم بذلك؟) وأكملتُ كلامي متسائلاً (حتى الموضوعات التي ارسمها ليس لها علاقة بالديوك، لا من بعيد ولا من قريب) لأنهي حديثي وأنا انظر لوجهه الذي علاه الاستغراب (ثم أين أضع أربعين ديكاً في هذا المرسم المكتظ باللوحات؟) فقاطعني ضاحكاً وهو يشير الى الخارج، بينما أصابعه الخشنة مازالت تداعب مفتاح سيارته، وقال (تعال معي الى الشاحنة وستعرف الحكاية). خرجنا معاً، ليفتح الباب الخلفي للشاحنة ويرفعه الى الأعلى، ليصبح مثل مظلة تقينا حبات المطر الخفيفة، وهناك تسمرتُ في مكاني وأنا أرى مجموعة من الديوك قد ملأت الشاحنة، ديوكاً متشابهة حد التطابق وكأنها تماثيل جيش التيراكوتا الصينية المرصوصة مع بعضها، لكن الديوك كانت مصنوعة من الحديد، وقد علا بعضها الصدأ، فحاولت أن أرفع واحداً منها لأقربه مني أكثر، فبدا ثقيلاً، بل ثقيل جداً لدرجة أن ذلك قد يقف عائقاً حتى أمام بيعه، فضحكت ومررتُ يدي على رؤوس بعضها، قائلاً له (هل هذه هي الديوك التي تقصدها؟) فأجابني جازماً (نعم، هل نسيتَ بأني أتاجر بالأنتيك والتحف القديمة والتماثيل الحديدية التي توضع في الحدائق، ثم إنك لم تعطني مجالاً كي أشرح لك الأمر!) فأجبته (مع هذا، لا تنتظر أن أشتريها منك أبداً) فضحكنا سوية وسحبته من جديد نحو المرسم وهيئت لنا قدحين من النبيذ.
اعتاد لوكاس الذهاب بشاحنته الى فرنسا في فترات متباعدة، لجمع الكثير من المنحوتات التي بانت عليها بصمات الزمن، وإعادة بيعها في هولندا، وهو يعيش وحيداً بلا امرأة تشاركه أيامه، ومن فرط وحدته وانشغاله بعمله وعدم اهتمامه بمظهره، صار يشبه التماثيل القديمة التي يعتاش على بيعها.
بعد حادثة الديوك أطلقت عليه لقب (لوكاس والأربعين ديكاً) كنوع من الدعابة والتذكير بذلك المساء الماطر، وقد انتشرت حكاية الديوك، وصرت كلما أسأل أحد المعارف عنه يجيبني (تقصد لوكاس والأربعين ديكاً؟). ورغم أنه كان يسكن في قرية راونن الصغيرة التي تبعد عني ثلاثة كيلومترات فقط، لكنه كان يَمُرُّ علي في مساءات متباعدة، كتلك المرة التي جلس فيها ساكناً على الاريكة الجلدية السوداء التي توسطت المرسم، وأخذ يستمع لأحاديثي وهو ينقل بصره بهدوء بين اللوحات دون أن يتفوّه بكلمة، فحاولت أن أحرضه على الكلام قائلاً (أليس لديك حكايات أو تفاصيل جديد تقولها لي؟ ألَمْ يحدث لك شيئاً في الأيام الماضية يستحق أن تخبرني عنه؟) وحين ظل صامتاً مازحته من جديد (طيب هل هناك ديوكاً جديدة؟) فإنطلق ضاحكاً وإنفتحت أساريره، لدرجة أنه تَوَجَّهَ بنفسه لإحضار قنينة النبيذ التي وضعتها على الطاولة البعيدة.
وفي المرة الأخيرة التي زرته فيها، وجدت أن كل شيء في بيته قد تحول الى اللون الرمادي وأخذ شكل ولون التماثيل التي انتشرت بشكل عشوائي في الحديقة، والتي توسطها تمثال ملاك تراكمَ الغبار على جناحيه، تقابله منحوتة طفل يتبول على هيئة نافورة، بينما اصطفت الكثير من التماثيل الداكنة الصغيرة التي تمثل بوذا في صف طويل بجانب السياج الخشبي. ودعته بعد تلك الزيارة، على أمل أن يمر عليَّ الأسبوع القادم، لكنه اختفى بضعة أشهر كالعادة، قبل أن يظهر فجأة أمام باب المرسم وهو يمسك بإحدى يديه شمعدان نحاسي قديم وفي اليد الأخرى يفرك مفتاح السيارة كالعادة ويطلب مني أن أتبعه نحو الشاحنة.